يوم فلسطيني للعالم- احمد دحبور
حين مرت بنا اعياد الميلاد المجيد، منذ ايام، وجدتني في حالة من الزهو الانساني المشروع، فهذا الميلاد الذي تحتفل به البشرية منذ ثلاث عشرة والفين سنة، انما هو بالنسبة الينا معشر الفلسطينيين، عيد وطني تحتشد فيه اسماء مدننا وقرانا: الناصرة، بيت لحم، بيت ساحور، القدس.. والبقية تأتي. فهل من كرامة ابلغ من ان تكون فلسطينيا؟
والمفارق ان هذه الكرامة الاستثنائية، قد شهدت من الجور والغبن ما يكفي ليجعلها نوعا من العبء الذي نحمله من المهد الى اللحد، وما زالت اذكر ذلك اليوم البعيد الذي سمعت فيه من ام صديق لي، كلاما من نوع: كأن الله في عونكم يا ولدي، كأنما لم يكفكم انكم فلسطينيون!!
والحق ان المرارة التي كانت تسببها اشارات «بريئة» الى وضعنا المزري، ما كانت لتخفي تلك الغبطة الداخلية التي تحيط بوعينا الوطني الفطري، فصحيح اننا مشردون لاجئون ومنكوبون، لكن الصحيح ايضا واولا ان النكبة لم تجعلنا موضوعا للشفقة، وان كان المجتمع الدولي قد حبسنا، فترة غير قصيرة من الزمن، في خانة مستحقي الشفقة، بل ان فكرة مؤن الاعاشة التي تنفقها علينا وكالة الغوث، كانت رمزا أليما لتلك الشفقة المهينة، ولم يكن امامنا الا ان نقوم بالعمل الوحيد الذي نحن قادرون عليه، وهو ان نكبر ونشبّ ونقلق راحة العالم بشعار العودة..
هكذا كان آباؤنا يزور بعضهم بعضا، وحين يرتشف احدهم فنجان القهوة، كان يقول لمضيفه: بعودتك، فيجيبه هذا: برفقتك ان شاء الله.
والحق اني سألت ابي ذات يوم عن معنى العودة، وما كنت لاتخيل ان ذلك الشيخ الصارم القاسي سينكشف عن لاجئ مكسور فينفجر بنوبة نشيج مربكة وهو يردد بما يشبه الهذيان: حيفا حيفا حيفا..
من يومها ارتسمت حيفا في خيالي صورة لكل ما هو جميل ونحن محرومون منه، حتى ان ابي احضر معه ذات يوم صفيحة زيت، وكانت صفيحة جميلة مذهبة، فما كان مني الا ان احتضنتها وانا اسأل: هل هذه حيفا؟ ما اجمل حيفا!!
وكان علينا ان نكبر ويشتد عودنا، حتى اعي ان حيفا ليست صفيحة زيت بل هي اكبر واشمل واغلى، وانها مدينة تستحق ان يستشهد من اجلها اخي كامل وان نضرب في مشارق الارض ومغاربها حتى نحيط بصورتها.
اما في المدرسة فقد مسح الاب فوتيوس خليل على رأسي، وكانت احتفالات عيد الميلاد، وهمس لي: طوبى لك يا بني، فأنت من بلاد المخلص الذي نحتفل جميعا بعيده لانه مخلصنا وسيدنا الى دهر الداهرين..
ستمر مياه كثيرة تحت مختلف جسور الدنيا، وستشرق الشمس عددا لا يحصى من الاشراقات، وستظل كلمات الاب فوتيوس تدفئ روحي وتشد ازري، حتى اذا احضرت ذات يوم خريطة من الذهب لفلسطين، وبحثت عن الاب فوتيوس لاهديه اياها قيل لي: لقد سبق الى هناك في الفردوس، فهمست ببراءة: ومتى ذهب الى فلسطين؟ اعرف ان هذا المستوى من الذكرى قد يحيل الى نوع من الميلودراما، ولكن الاب فوتيوس رحمه الله، لو كان بيننا لاكد انه ما من ميلودراما في ان تكون مجنون فلسطين، فتلك الديار المقدسة تستحق منا هذا القدر من الجنون.
ولقد حاولت ان ابوح بشيء من هذا، الى صديقي الشاعر حيدر محمود، فعلق على كلامي ببيت شعر له لا انساه ما حييت:
اني لاعلن ان الارض عاقلة
وليس يسعفها غير المجانين!
اما انا، وفي حضرة سيد الميلاد، الفلسطيني الناصري التلحمي، فأستدفئ بالعناد الذي اورثنا اياه الآباء واصلي من اجل الاحتفاظ بجمرة الجنون الخلاق، الجنون المؤدي الى جوهر العقل والعدل، واتشبث بلؤلؤة الامل التي هي فكرة حق العودة..
هكذا يكون عيد الميلاد يوما فلسطينيا للعالم، وحتى نكون جديرين بهذا العيد العابر للزمن فإننا نحمل باليدين، جمرة الجنون الخلاق، ونكرر ما تعلمنا من آبائنا ان نقول: عيدنا يوم عودتنا..
وكما قال الشاعر الاسباني الشهيد لوركا: آه.. فليمهلني الموت، حتى اصل الى غرناطة.. غرناطة البعيدة غير الضائعة فهل يفعل الموت ويمهلني؟