ذكرى الانطلاقة قرينة الأمل- عدلي صادق
في الذكرى التاسعة والأربعين لانطلاقة حركتنا الرائدة؛ يتجدد العزم الشعبي الفلسطيني على المضي قدماً في طريق الثورة، وصولاً الى هدف دحر الاحتلال والاستقلال والحرية، والى بناء المجتمع التعددي الخلاق، نقيض الظلامية ومنطق الغيتو وروح الاستعلاء العنصري. فـ "فتح" هي برهان الجدوى على فاعلية المبادرة النضالية، مهما كانت الصعاب. وهي نتاج الطرح المستنير، الذي يعرف معنى الوطن مقروناً بمعنى المواطنة، بحيث لا يكون ثمة تمييز بين إنسان وإنسان، في رحلة النضال والصبر، على طريق الحق، أو في واقع العيش على أرض الوطن، سواء كان مستقلاً أو في طور الاستقلال.
فما الحفاوة الشعبية، التي تلقاها ذكرى انطلاقة "فتح"؛ إلا تعبير عن موقف وجداني من فكرة البدايات، ودعوة صريحة الى التمرد على المآلات، بعد أن غدر المحتلون وأعوانهم، بالعقلانية الفلسطينية، وبالقادة الوطنيين الذين تحلوا بروح المسؤولية وقرأوا وقائع الراهن الدولي والاقليمي، فارتضوا حلولاً أقل من وسط، لانقاذ شعبنا، مراهنين على سيرورة تاريخية، وعلى اختبار القدرة على الرسوخ في أرض الآباء والأجداد. فقد كان خيار التسوية، في أعماق الذين جعلوه خياراً، أنه بمثابة مباراة بيننا وبين المحتلين. بين أصحاب الأرض والحق الذي لا يأتيه الباطل من يمين أو شمال، والغزاة الطارئين المستجلبين من جهات الدنيا الأربع، بعد أن لفق لهم الصهيونيون، انتماء لأرضنا، وحججاً للتطفل على حضارة شعبنا وثقافته وفلكلوره وحتى على بعض طعامه البسيط الشهيْ!
عبرة الاحتفال بذكرى الانطلاقة، تشتمل ضمناً على التذكير بأننا اليوم، لسنا مقيدين بأشد مما كانت عليه قيودنا في اليوم الأول لثورتنا المعاصرة، ولا أقل قدرة على المبادرة، مما كنا عليه في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1965. بالعكس لقد بتنا نمتلك هويتنا كشعب مناضل وصاحب قضية بالغة الأهمية على الصعيد الدولي، بعد أن كنا في العام 1965 مجرد شعب مشرد أو تحت الوصاية، وذي قضية إنسانية أو قضية لاجئين. اليوم ما زال نحو نصف شعبنا يعيش في أرضه التاريخية، سواء في أراضي دولة فلسطين التي اعترفت بها الأمم المتحدة، أم في أراضي فلسطين التي أقيمت عليها "إسرائيل" العنصرية. وباتت قدرتنا على استجماع وسائل التأثير وعناصره، أكبر بكثير مما كان عليه الحال في العام 1965 وبات العدو أكثر افتضاحاً مما كان عليه في ذلك العام، عندما ظل يخدع الأمم ويوهمها أن عرباً متخلفين أشراراً، في صورة ضَبْع مفترس، يريدون الانقضاض على بريء يتوخى مجرد العيش بسلام، وهو في صورة كبش صغير!
إن حفاوة شعبنا بذكرى الانطلاقة، تحمل صرخة اليقين، بأننا باقون على هذه الأرض، وبأننا منتصرون لا محالة، لأن طرفاً مدججاً بالسلاح يسانده معسكر الباطل والاستكبار، لن يهزم شعباً يقاوم العنصرية ويحتقرها، وله قضية تربح في كل يوم أصدقاء ومنصفين جُدداً، وبعضهم من المجتمع الأكاديمي للعدو نفسه. إن الذين باتوا يكتبون عن "إسرائيل" كشعب ملفق، والذين يفضحون في كل يوم، الرواية التي جاءت بها الصهيونية الى وطننا، ليسوا من الأصوليين المسلمين أو من القوميين العرب. إنهم يهود من آباء صهيونيين. فهذه هي سنن الحياة ومفارقاتها التي لا يغلبها السلاح. تتقهقر الأخاديع ويُعاد الاعتبار للحقيقة الموصولة بحق لن يضيع.
إن المعنى الأبعد، لحفاوة الفلسطينيين بذكرى الانطلاقة، هو أن قدرة شعبنا على المبادرة، لا تحدها حدود. وليس هناك ما يجبرنا على الاستمرار في التماشي مع هذا الهوان. ما نخشى منه، نحن قاعدون عليه سلفاً، وليفعلوا ما يريدون. إن هؤلاء المعتوهين الظلاميين العنصريين، أصحاب التمحكات والاشتراطات المنحوتة والمواويل المتناسلة، لا يُجدي معهم سوى البصاق في وجوههم والإقلاع عن ذميمة الكلام معهم. فماذا هم فاعلون أكثر من انتزاع مفاتيح السلطة وأختامها، وإعادة الأمور الى المعادلة الأولى: أراضٍ محتلة، لهم فيها عار تمثيل الاحتلال العسكري الأخير في العالم، ويجسدون القدوة السيئة للأصولية اليهودية الصهيونية المجنونة، التي تبعث الروح في أصوليات أكثر منها جنوناً!
لقد ضيّع المحتلون فرصة التسوية التي تطوي تاريخ الصراع بالنيران، وإن كانت فرصة تفتح الباب لمباراة تاريخية وحضارية وقانونية، يتقصى فيها كل صاحب حق حقه، وتختبر أثناءها قدرة الطارئين على البقاء في أرض مغتصبة، يرون بأمهات عيونهم في كل يوم، أصحابها الحقيقيين.
ولأنهم ضيّعوا الفرصة، فإن بديلهم هو السلاح المصوب الى صدور أصحاب الحق، على مدى زمني غير منظور. هنا مكمن ضعف المحتلين، ومكمن مأزقهم، بل هنا مصدر الوجاهة، في الاحتفال بذكرى "فتح" لأن ذكرى الانطلاقة هي قرينة الأمل والرؤية الشاملة، لا الرؤية الحزبية ولا الرؤية المذهبية، ولا الرؤية الصغيرة في حساباتها، سلطوية كانت أم حزبية. لذا نحن متمسكون بسياق الكفاح الوطني، ماضون على طريق الثورة حتى النصر.
adlishaban@hotmail.com