ياسر عرفات وحاسته السادسة- يحيى يخلف
كان ياسر عرفات مستهدفا من أجهزة الأمن الإسرائيلية على مدى مسيرة الثورة الفلسطينية، فقد كانت الملاحقة الأولى حين قاد دوريته الأولى بعد نكسة حزيران بأسابيع قليلة وعبر نهر الأردن ودخل الأرض المحتلة متوجها عبر مرتفعات طوباس الى بلدة قباطية حيث أسس فيها قاعدته الارتكازية، فانضمت البلدة بأجمعها الى حركة فتح، ومنها الى جنين، ثم الى نابلس فبيت فوريك فرام الله فالقدس متخفيا تحت اسم (أبومحمد) وحاملا هويات مزورة، ومواصلا الليل بالنهار في العمل مع الرعيل الأول من الفتحاويين وأنصارهم إعدادا وتحضيرا لبدء الانطلاقة الثانية للثورة والإعلان عنها.. حتى ذلك الوقت لم تكن شخصية أبو عمار معروفة للمستوى الأمني الإسرائيلي ولا للمستوى السياسي، ولكنهم اكتشفوا اسمه الحركي وصورته الافتراضية التي رسموها بعد اندلاع العمليات العسكرية الجريئة ووقوع بعض الفدائيين في الأسر، وبعد جمع معلومات من عملاء أو وشاة، عرفوا صفته القيادية، فطاردوه من مكان الى آخر، ومن بلدة الى أخرى.
المطاردة الأولى كانت في مدينة القدس حيث كان يقيم هو والكادر القيادي عبد الحميد القدسي في بيت بجوار البلدة القديمة، وكادت دورية أمن اسرائيلية تعتقله، وتمكن عبد الحميد من تهريبه قبل وصول الدورية، ونقله بسيارة بديلة للسيارة التي كان يستعملها وتمكن من اجتياز كل الحواجز والوصول الى رام الله حيث أقام في بيت بمنطقة شارع ركب (فوق حلويات الأمراء) وحيدا، لأن مساعده عبدالحميد القدسي عاد الى القدس فوجد الأمن الإسرائيلي بانتظاره وتم اعتقاله، وكان قد سبق ذلك اعتقال مساعده الثاني أبو علي شاهين الذي كان مكلفا بالعمل في منطقتي بيت لحم والخليل.
وزع الاسرائيليون صوره الافتراضية على الحواجز، واستنفروا اجهزتهم وبعض عملائهم، وكان يراقب محاولاتهم لإحكام القبضة عليه من مخابئه السرية العديدة اذ كان يرى الدوريات تمر من أمام امكنة اقامته، وعندما يدرك بحاسته السادسه انهم على وشك الوصول الى مكانه، كان بمساعدة نخبة من رجاله في رام الله يغيّر المكان ويغير ملبسه وأوقات خروجه وعودته ويبتدع أساليب اخرى لضمان أمنه.
بعد ان أعلن عن الانطلاقة الثانية وتأكد من تصاعد الكفاح المسلح، وأدرك بحاسته السادسة انه اصبح قاب قوسين من الاعتقال والتصفية، قرر الخروج من رام الله والتوجه الى قاعدته الارتكازية في بلدة (الكرامة) شرقي النهر حيث طارده الإسرائيليون بطائراتهم ودباباتهم، وعبروا النهر الى الكرامة لسحقه وسحق الفدائيين كما تسحق البيضة في قبضة اليد حسب تعبير موشيه دايان، لكنه ورجاله وأحرار الجيش الأردني الحقوا بالجيش الإسرائيلي هزيمة تاريخية شكلت منعطفا في الصراع، ووضعت الثورة الفلسطينية في قلب المشهد العربي وقلب المشهد الدولي.
حاسة أبو عمار السادسة علمته الحذر وأخذ الحيطة، وأصبحت جزءا من سلوكه وعاداته، فكأنها الإسم الحركي لأمنه الشخصي، حتى عندما أصبحت أجهزة أمن للثورة (الأمن المركزي، الأمن الموحد، أمن الـ 17) ظلت حاسة أبو عمار حاضرة، فالمعلومات التي تصله دقيقة، وتحيطه أجهزة الأمن بالمعلومات وتقوم بحراسته، لكنه يستطيع ان يقيّم ويستنتج، ويقرر كيف يحمي نفسه في تحركاته، اذ تصبح الحاسة السادسة الرادار الذي يكشف المحاذير، ومن هنا كان يقال ان ابوعمار هو حارس نفسه.
وكما قلت ان ياسر عرفات كان مستهدفا طوال قيادته للثورة ومنظمة التحرير، وان عشرات المحاولات الإسرائيلية لاغتياله قد جرت سرا وعلانية، منذ دخوله الأرض المحتلة عام67 الى قاعدته الارتكازية في الكرامة، الى غارة الطائرات الإسرائيلية على مقر قيادته في حمام الشط بتونس، مرورا بمحاولات أخرى لم يعلن عنها، وصولا الى محاصرته في المقاطعة، ودس السم له.
كان أبو عمار بحاسته السادسة يدرك ان العمليات الخاصة التي تستهدف القيادات الفلسطينية تجري في وقت ما بعد منتصف الليل، لذلك كان يعمل ليلا وحتى بزوغ الفجر كي يكون يقظا ويواجه ولا يؤخذ على حين غرة.. وهذا سر ما اشتهر عنه من انه يعمل في هذا التوقيت الليلي الذي لم يغيره حتى رحيله، كما انه كان يتخذ احتياطاته في تنقله وفي أسفاره، وهذا ما ابقاه لفترة طويلة خارج دائرة الاغتيال..
ولعل أبلغ تعبير عن تجليات حاسته السادسة كانت دعوته الدائمة لقوات الثورة الفلسطينية في أماكن وجودها كافة حين يشم رائحة خطر أو عمليات اجتياح من خلال برقيات عبر جهاز اللاسلكي يوجهها للألوية والكتائب والسرايا لحفز حواسهم: الانتباه .. الانتباه.. الحيطة والحذر..الحيطة والحذر.