أُبشركم بفشل مهمة كيري... - د. عبد المجيد سويلم
انتقل السيد كيري في طروحاته لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في غضون عدة أشهر فقط، من مهمة الحل الشامل إلى اتفاقية إطار فإلى ورقة مبادئ.
هذا الانتقال هو في الواقع السياق "المنطقي" لمهمة كيري، طالما أن الإدارة الأميركية تبحث في إيجاد صيغة ما ترضي الطرفين معاً من على قاعدة مُجحفة أصلاً.
القاعدة المجحفة هي بالأساس تحقيق الحد الأقصى الممكن من الطموحات الإسرائيلية مقابل تحقيق الحد الأدنى الممكن للفلسطينيين، هذا أولاً. أما ثانياً، فإن تحقيق المطامح الإسرائيلية (والتي هي في الجوهر الأطماع الإسرائيلية) أمر مكرّس على الأرض، في حين أن تحقيق المطامح الفلسطينية أمر في علم الغيب، أو هو برسم الموافقة الإسرائيلية عليها. وأما ثالثاً، فإن الإدارة الأميركية تبحث عن الكيفية التي تستخرج من بطن الأطماع الإسرائيلية شيئاً ما يقدم للفلسطينيين.
بعبارة أخرى، الولايات المتحدة لا تبحث عن أحقية الأطماع الإسرائيلية من عدمها، وإنما عن الاحتياطات الكامنة في لبّ الأطماع الإسرائيلية علّها تصلح في سدّ بعض الاحتياجات الفلسطينية.
اكتشف السيد كيري ولمس بأصابعه العشر، أن ما كانت تقوله إسرائيل حول "استعدادها" للدخول في عملية سياسية معمّقة للبحث عن تسوية تاريخية شاملة، أمر مستحيل، وأن الحديث الإسرائيلي حول هذه المسألة بالذات هو مجرّد دعاية سياسية ليس لها في الواقع أي سند حقيقي.
اكتشف كيري ذلك مبكراً عندما طرح خطته حول الأمن والحدود. فقد تبيّن الآن أن إسرائيل لم تتزحزح قيد أُنملة عن شرط تواجدها العسكري على الحدود الشرقية، ولم تتخل عن "حقها" الحصري في مراقبة المعابر، وان جوهر ما يمكن أن توافق عليه من وجود طرف أو أطراف ثالثة أو اخرى لا يجب ان يشكل قيداً على الدور الإسرائيلي.
كما أن إسرائيل لم تبد حتى تاريخه أية مرونة فيما يتعلق بقضية القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية، وأن كل ما أبدته حتى الآن هو الإبقاء على القدس الكبرى موحدة، على أن يكون للفلسطينيين تواجد رسمي هو من حيث الجوهر شكل للحكم البلدي على بعض الأحياء المحيطة بالقدس وخارج كامل منطقة "الحوض المقدس".
باختصار لا يوجد من حيث الجوهر شيء اسمه القدس الشرقية، ولا يوجد شيء اسمه عاصمة للدولة.
أما في قضية اللاجئين فالرفض الإسرائيلي مطلق وقطعي، والحديث عن حالات إنسانية وجمع شمل ممكن من ناحية المبدأ ولكن ليس باعتباره حقاً وطنياً أو سياسياً بأي حال من الأحوال.
أما الاستيطان فالقاعدة التي تراها إسرائيل مناسبة هي التالية:
الاستيطان حق إسرائيلي، نابع من كون إسرائيل دولة الشعب اليهودي بالأساس، ولهذا لا يوجد شيء اسمه انهاء أو تصفية الاستيطان، وإنما إعادة تنظيم هذا الاستيطان في اطار جغرافي جديد يتمثل في ضمّ الكتل الاستيطانية التي يمكن أن تكون ثلاث أو أربع أو خمس أو حتى عشر كتل بحيث تبقى على ما هي عليه، ويضاف لها كل ما سيتم بناؤه في السنوات القادمة بعد أن يضم اليه فوراً كل ما يسمى بالاستيطان العشوائي.
باختصار، أيضاً، يتم ضم كل المستوطنات إلى إسرائيل بغض النظر عن "سيادة الدولة الفلسطينية"، وبغض النظر عن حجم الاستقطاع الجغرافي الذي سيترتب على هذا الضم، على أن يتم البحث عن الوسائل التي يمكن أن تعوّض الفلسطينيين عن هذا الاستقطاع، وليس شرطاً أن تكون عملية تبادل الاراضي هي الوسيلة الوحيدة.
عند هذه النقطة، اكتشف كيري أن الحل الشامل هو أمر مستحيل وخارج نطاق "المنطق" و"الواقع". وعند هذه النقطة من "اكتشاف" كيري ظهرت بوادر الفشل الذريع، فلجأ السيد كيري إلى "حيلة" اتفاق الاطار. "اتفاق الاطار" الذي حاول كيري أن يجرب حظه من خلاله ليس هو الحل وإنما الاطار "المتصور" للحل، ولكنه الطريقة التي من خلالها يمكن تمديد المفاوضات إذا لزم الأمر (وكان الأمر لازماً بوضوح شديد)، وهو الطريقة التي من خلالها يمكن "إيهام" الطرفين بأنه حقق ما كان يتطلع إليه دون أن يقدم التنازلات التي قد تفضي إلى تهديد مكانته السياسية.
ومع أن اتفاق الاطار كان يمكن أن يكرس الاطماع الإسرائيلية ويبقي الطموحات الفلسطينية في مهب الريح وتحت رحمة الاحتلال نفسه، الا أن السيد كيري تأبط مشروع الدفاع عن يهودية الدولة كبداية "ضرورية" من وجهة نظره لصياغة "الاطار"، وذهب في رحلة مستعجلة إلى كل من السعودية والأردن لحشد الدعم المطلوب في محاولة لرشوة نتنياهو بالموافقة على ذلك الاطار العام.
عاد كيري واكتشف ان نتنياهو ليس مستعداً للتوقيع على اتفاقية الاطار إذا تضمنت أية اشارات ولو هلامية إلى قضية الحدود (حدود الرابع من حزيران) أو السيادة على الأرض أو انهاء الاحتلال او الاستيطان او اللاجئين. ولم تعد قضية الدولة اليهودية هي المطلب الأهم لموافقة نتنياهو على اتفاقية الاطار.
عاد كيري من جولته العربية دون الحصول على تأييد عربي ليهودية الدولة، واصطدم برفض نتنياهو لاتفاقية الاطار من جديد.
لم يعد أمام كيري سوى "ورقة المبادئ" والتي لا تعني شيئاً في الواقع سوى نقطة واحدة، وهي العمل على تمديد فترة المفاوضات من أجل التفاوض على هذه الورقة، علّها تتحول يوماً ما إلى قاعدة لاتفاق إطار جديد، وعلّها تتحول على المدى المباشر إلى نوع جديد من المرجعية الجديدة للمفاوضات المفتوحة.
ولذلك فإن مهمة السيد كيري انحدرت وتدحرجت من الحل الشامل إلى اتفاقية اطار، ثم إلى ورقة مبادئ ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بأي حل على الاطلاق. كيري الآن مشغول بالهمّ السوري، وهو يراهن على أن يحقق شيئاً ما هناك قد يساعده في "لحلحلة" الوضع هنا، لكن الواقع يقول إن الوضع هناك قد لا يكون أسهل من الوضع هنا، وعلى العموم فإن نجاح كيري هناك لا يعني أبداً بأن الحل هنا بات ممكناً أو أسهل مما كان عليه، وهذه النظرية بالأساس نظرية خائبة، وقد يكون الحل على الجبهة السورية سبباً لعدم الحل هنا وليس العكس.
بغض النظر عن العلاقة ما بين الحلّين، فإن السيد كيري في طريقه للبحث عن حل هنا قد فشل، لأن إسرائيل حولت إمكانية نجاحه إلى مستحيل.
كيري يعرف ذلك، ويعرف أن إفشاله هو مهمة إسرائيلية خالصة ومعلنة، ويعود له الطريقة المناسبة للإعلان عن هذا الفشل، ويعود له تحديد موعد هذا الإعلان. أما أنا فأُبشركم بفشل مهمة السيد كيري.