رُسُل كنعان- د.احمد جميل عزم
يتحفّز عدّاء المسافات القصيرة، وتتوتر عضلاته، ثُمَّ يعدو كرصاصة. وفي بعض تسجيلات أغنية أم كلثوم "إنت عمري"، يداعب العازف العود؛ يدندن بريشته على الوتر بِتَرَدُد تجريبي واثق، متمهلاً تطربه الإعادة؛ يُداعب المستمعين ثم يجتاحهم. وفي موسيقى زوربا اليونانية، يداعب العازفون بتردد واثق وتر الغيتار، كمن يُمددون أقدام الراقصين وأيديهم؛ يعدّونهم لرقصة طائر يشرع ذراعيه على المدى، ويُعِدون المشهد للطقس اليوناني المجنون بتكسير الصحون أثناء الغناء.
في وادي الفارعة، شمال شرق فلسطين، غير بعيد من غور الأردن، أقام البريطانيون في ثلاثينيات القرن الماضي مبنى استخدمه الجيش العراقي، ثم الجيش العربي الأردني، بعد العام 1948. وهناك، أقيم مخيم الفارعة للاجئين. احتّله الإسرائيليون في العام 1967. وفي نيسان (أبريل) 1982، فوجئ الأهالي بمروحية تهبط، وينزل منها وزير الدفاع الإسرائيلي حينها آرئيل شارون. فواجهوه يما يلزم من مقاومة. وبعد حين، تبين أنّه يحول المبنى إلى سجن، مخصص للشباب والطلبة، أكثر من غيرهم.
حوّلت إرادة الفلسطينيين المبنى الآن إلى مركز شباب. تدخل، فتشاهد إلى يمينك ملعب كرة قدم أخضر ممتدا، تمتلئ مدرجاته بالحضور. وإذا كانت عيناك تتقنان إحاطة المشهد الفلسطيني، فإنّك بهاتفك النقّال قد تسجّل لوحة تضم جبال نابلس خلف الملعب، وشمسا آتية، أو بالأحرى غاربة في البحر، تمر فوق القرى والمدن التي جاء منها اللاجئون؛ أم الزينات، والريحانية، والكفرين، وغيرها. ويستقبلك رائد جعايصة، الأسير السابق هناك، وأحد من يديرون المكان الآن، ويصطحبك في جولة، تستمع فيها لسيرة "الجلاوزة".
كان السجن معدا لتدمير الأرواح؛ يتركون الشاب يقف عاريا ساعات، يحمل ملابسه في باب العيادة، مع سخرية الطبيب. وتسير إلى خزائن الشبح، حيث "يُعلّقونهم" أياماً، وزنازين التحقيق، وذكريات الأيام الصعبة عندما كان الجنود يقفون على سطح المبنى، يراقبونهم في الساحة، يسخرون منهم، ويرمونهم بالحجارة، وربما يبولون عليهم. والعام 1992 عندما لعب الجنود بالثلج، وقذفوا به المعتقلين، وفتحوا أفواههم وملؤوها ثلجاً. دخلنا غرفة تسمى الآن "قاعة رُسُل أبو صاع"، فيها جدارية كبيرة، هي من ضمن لوحات رسمها رُسُل أثناء أسره. كان السجّان يعتقد أنّه يسمح بها لإمتاع جنوده. كتب رُسُل اسمه عليها بثلاث لغات، والتاريخ 25/ 4/ 1983. ويقولون رممها ابنه علاء. أفكّر: ذهب مدير السجن الرهيب، "ابو علي ميخا"، وبقي رُسُل.
أبحث عن علاء، فأجده في مركز الفن الشعبي في البيرة. يخبرني: قصة والدي غريبة. جدي رشيد، من دير الغصون في طولكرم، أحب فتاةً رفض أهلها تزويجه إيّاها، فأقسَمَ أنّها ليست لغيره، وأصاب بالرصاص عريسها يوم العرس، فسجن سنوات. ساعده ضابط إنجليزي اسمه رَسِل على الخروج من المعتقل، فيشعر بالامتنان له. ويدعو الناس رشيداً لطعام الغداء احتفاء به. وهناك عند مضيفيه، تأتي ابنتهم. أهلها يجبرونها على خطبة شخص تأباه، وتكون قد ضربته بإبريق الشاي. وتحتمي برشيد، فيهب قائلا إنّه مستعد للعودة للسجن دفاعاً عنها، ويتزوجها.
يولد ابنه فيسميه رَسِل، أو، رُسُل، ويستشهد رشيد سريعاً العام 1949، وبين يديه قنبلة. ويكبر الطفل يتيماً، يكسب بعض رزقه من نحت ميداليات خشب الزيتون، وصناعة ألعاب الأطفال بأسلاك معدنية. ويصير طالباً في "النجاح"، يوم كانت معهداً لإعداد المعلمين؛ يدرس العربية والتاريخ. وهناك يحب ويتزوج. ويصبح ممثلاً مسرحيّاً، ورساماً، يملك محلا لبيع البراويز، ويُدرّس الفن والرياضة في المدارس، ويكتب شعراً. ويناضل ويُعتَقَل مراراً، ويرسم لوحات شوهها الجنود بالرصاص قبل انسحابهم من المعتقل منتصف التسعينيات، بل ودمّرها الأهالي في اندفاعتهم الانتقامية للسجن.
يقول علاء إنّ اللوحات كانت مناظر طبيعية ومياها وأشجارا، مُهمة للمعتقلين "للتأمل" والخيال. بقيت واحدة في وضعية أمكن ترميمها. أمّا رُسُل، فتوفي فجأة؛ نام في سن الثانية والأربعين، وقد أصبح مذيعاً في محطات تلفزيون محلية، ولم يستيقظ. ويذكره علاء إنساناً "متطرفا" في دعاباته ومرحه، وعصبيته "المزلزلة" أحياناً، لدرجة حقنه بأدوية تهدئ انفعالاته، من مثل تكسيره محل البراويز بالكامل على رأس شاب تحرش بفتاة في الشارع، ما دفعها للبكاء.
ذهب رُسُل الفلسطيني، وبقيت سيرته وروحه؛ قصة الفتى كنعان، يستطيع الطيران فينيقاً. ضرب بريشته بتأن، ثم اجتاح جدار السجن، وركض بعيداً داخل لوحته.