مروان البرغوثي أمام زنزانة نيلسون مانديلا - عيسى قراقع
وزير شؤون الاسرى والمحررين
ألم اقل لك يا أبا الإنسانية، ومحرر المضطهدين من نير العبودية والعنصرية أن واحدا منك يكفي شعب فلسطين ليتألق عاليا في سماء حريته، ويضع كل سجاني وجلادي العالم في قفص الاتهام أمام حشود الضحايا النازفة الناهضة من آلامها وقبورها لتجدد حياتها كاملة.
وقال مروان البرغوثي الواقف أمام زنزانة المناضل الكبير المرحوم نيلسون مانديلا خلال إطلاق الحملة الدولية لإطلاق سراحه في جنوب أفريقيا وبحضور شخصيات دولية وأسرى محررين وممثلين عن الأحزاب المختلفة يوم 25/10/2013 : أن روح مانديلا تتفجر في أعماق آلاف الاسرى الفلسطينيين المعتقلين في الزنازين والمعسكرات، يقتربون من خلاله إلى أقصى درجات الحرية، بل أن اسم مانديلا هو الاسم السحري لحتمية انتهاء عهود الاحتلال والاستعمار في العالم.
وقال :جئتك من فلسطين المجروحة عميقا إلى جزيرة "روبن ايلاند" حيث احتجزت 27 عاما لأقول لك: كما أنت نجحت في امتحان المعجزة الثورية بإسقاط نظام الابرتهايد البشع، وجلبت لشعبك العظيم الحرية والديمقراطية والمصالحة والسلام، فنحن لا زلنا في امتحان المعجزة الفلسطينية صمودا على حواجز عسكرية قاتلة، وصمودا في حماية شجرة يقتلعها المستوطنون بلا رحمة، وصمودا في حماية تاريخنا وأسماءنا من العبرنة والحفريات وتشويه المكان.
جئتك من زنزانة رقم 28 في سجن هداريم الإسرائيلي بعد 12 عاما من اعتقالي لأكشف لك عن تلك المسرحية الإسرائيلية التي تؤسس السلام على استحضار شبح من أجل الاحتفال بتغييبه حقوقا وشرعية، مما يجعل هذه المسرحية خالية من أي شيء، الأرض خالية منا بعد أن حل مكاننا مستوطنون عتاة، والسلام خال منا بعد أن حشرنا في أقفاص متباعدة وضيقة.
سأقول لك ما قلته أنت يوم تحولت إلى رمز للعدالة في محكمة الظالم ممثلا للمثل العليا للحرية والعدالة والديمقراطية : بأننا الشعب الفلسطيني سنواصل المقاومة حتى في قلعة العدو، وداخل معسكراته حتى تسقط جدران الاحتلال ، وحتى يفوق ويعود إلى نفسه إذا أراد أن يتحرر من الانغلاق ومن هاجس البندقية.
لقد أمضيت مدة طويلة في هذه الجزيرة المعزولة وداخل زنزانة رطبة بمقاس 8 أقدام في 7 أقدام، وقضيت سنوات طويلة في كسر الصخور في المحاجر، لأنقل لك تحيات آلاف الاسرى الفلسطينيين الشهداء والأحياء، مرضى وأطفال ونساء وكبارا في السن، تحيات شعب كسر السلاسل مرارا بأرواحه وأجساده، يحيا بعد الموت، ويحوّل موته إلى حياة أخرى، لا يتعب، يسير على خطواتك عندما سقط نظام الفصل العنصري وجاء كل العالم يفتح الأبواب المغلقة عليك.
أيها القائد الذي أعطى الشعوب المعذبة ترياق الأمل، وأعاد للمقهورين ابتسامتهم الغائبة ، انهض قليلا ونبه قادة تل أبيب أنهم يسيرون نحو الزوال والانقراض الإنساني، وأن عليهم إعادة قراءة تاريخهم ووجودهم على هذه الأرض باعتبارهم وجودا غير شرعي ، وأنهم أصيبوا بالجنون الفوق عنصري عندما يطالبون الاعتراف بتحويل ديانتهم اليهودية إلى قومية، محلقين في اللاهوتية العدائية التي لا حدود لها في شطب الآخرين.
أمام زنزانة مانديلا التي زينتها صورة مروان البرغوثي ظل صوت مروان يصدح عاليا، مفعما باشرا قات الفرح، محتفلا بالحرية في بلد الحرية كأنه في القدس يتحرر من الحاضر إلى الغد بنبوءة واضحة المعاني تقول: بأننا لا ننافس العالم كضحايا ، بل ننافس العالم كبشر عاديين استطاعوا أن يجردوا الجلادين من بطولاتهم الوهمية.
مروان البرغوثي يتحرك في زنازين سجن روبن آيلاند، هنا سقطنا ، هنا نهضنا، هنا شبحنا، وهنا سال دمنا، وهنا عزلنا ، وهنا جرى قمعنا بالرصاص والغاز السام، هنا صرخنا وأنشدنا وتوحدنا، وهنا أيضا كنا قادرين على إثبات حضورنا الحيّ، متحررين من عقدة الخوف، ومتيقنين أن النهار يتسع لنا جميعا، يقترب من أبواب الحديد ليطرد الظلام والظالمين.
هنا نظام ابرتهايد عسكري وجغرافي وثقافي، ولم يبق فلسطينيا إلا ودخل السجن وحفظ أسماء السجانين منذ معتقل صرفند حتى إسطبلات الفارعة ، فالظلم واحد، والجلاد واحد ، وللحرية أيضا نشيدا واحدا تشاركنا فيه الأرض والسماء.
مروان البرغوثي يعانق نيسلون مانديلا حاملا روحه ونبضات عروقه العنيدات، يتلفت إلى كل الجهات، تصده أقسام السجون وتفتيشات وآهات، ما اطول الرحلة وما أقرب الفرحة، يقول مروان البرغوثي وهو يراقب عودة قدامى الاسرى من بوابة السجن إلى بوابة رئاسة الدولة في ذلك الفجر الابيض.
مروان يطمئن مانديلا : لا تخش علينا، أشجارنا عالية تنام أغصانها في فم العاصفة، عرق بشري في حجارتنا ، شمسنا عمودية دائما، رائحة ضوء في قمحنا، البئر ملآن، شهوتنا للحياة أقوى من الموت وإن خذلتنا ضمائر العالم أحيانا، مسيحنا قام وأضاء شجرة الميلاد، لا تقلق نحن على موعد مع النصر الإنساني وليس مع الخسارة، سائرون إلى الحقيقة وهم سائرون إلى الخطيئة.
يردد مروان ما قاله مانديلا: الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة، ونحن لن نقتل أنفسنا، ولن نضيق خياراتنا في الحياة والسلام، ولن نوقع على اتفاق لتأجير وطننا لنا كعبيد سخرة، ونحن الشعب الوحيد الذي أدمن الحضور الكثيف في الغياب، ولمانديلا وروحه الطاهرة هذا العهد وهذا الحلم والوفاء.