"عمر" من "فلسطين" - د.احمد جميل عزم
تَصعَد شارعاً حادّ الارتفاع في رام الله، قريباً من "المقاطعة"؛ مقرّ القيادة الفلسطينية، حيث حوصر الرئيس ياسر عرفات، وحيث كان يوماً سجن رام الله وكان الأهالي يقفون قربه ينادون أبناءهم، وحيث هناك شارع قريب ينحني برفق، فيأخذ شكل هلال، زُرِعَ رصيفه بأشجار لوزيّات، ما يجعله في الربيع مدهش الجمال. وقبل أشهر، كان هناك على زاوية في الشارع إعلان عملاق لفيلم اسمه "عمر"، وضعتُ في حُسباني حضوره.
حضرت نهاية الثمانينيات، وكنت حينها طالبا في الجامعة، فيلما في قاعة عرض الأفلام بمؤسسة عبدالحميد شومان، وكان موقعها شارع الثقافة (حالياً) في الشميساني بعمّان. كان الفيلم عن الزواج القسري للفتيات في أراضي فلسطين المحتلة العام 1948؛ لم يكن فيهِ سياسة واحتلال. وقفَ عَقِب الفيلم رجل مسنٌ غاضب، سائلاً: أين فلسطين؟ أين قضيتها؟ وقفتُ وقلت: ولكن الفيلم عرض فلسطين الجميلة؛ الجبل، وحكايات الناس، والحياة، أي قدّم ما نعشق وما ناضل لأجله المناضلون.
دخلتُ مبنى مرتفعا في رام الله، صباحاً، لإجراء مقابلة تلفزيونية تمسّ وضع الجامعات الفلسطينية المالي الحرج. رأيت شابا قرب المصعد، سألته: أيّ طابق القناة؟ أخبرني، ونزلنا سويا. وتبيّن أنّه قادمٌ لمقابلة من نوع آخر. وفي المساء، عند افتتاح فيلم "عمر"، لمخرجه هاني أبو أسعد، في مسرح قصر الثقافة، اتضح أنّ الشاب أحد أبطال الفيلم.
صفَّق الجمهور طويلاً، وصفقتُ قليلاً، وربما لم أفعل. في العمل تصويرٌ وتمثيل متميزان. لم يزعجني تمويل الفيلم بأموال حكوميّة فلسطينية، بينما يُضرِب طلبة الجامعات بسبب نقص الأموال. ولكن قصّة وروح الفيلم أربكاني.
القصة عن ثلاثة مناضلين أصدقاء، يحبُ أحدهم شقيقة آخر، ويقفز عن جدار الفصل ببهلوانية للقائها. ويُنفّذون عملية قتل جندي، ويُعتقل الشاب العاشق، ويخرج من المُعتَقل شرط التعاون مع الإسرائيليين، ويحاول عدم التعاون والهرب، ولكنه يجد أنّه روقب واستُخِدم من دون علمه. ثم يَخدَعهُ ثالثهم بأكاذيب خسيسة، لتخلو له الفتاة ويتزوجها. وينتهي الفيلم بقيام "المناضل-المتعاون" بقتل الضابط الإسرائيلي الذي استخدمه، ما أراح الجمهور.
يُرّشح الفيلم الآن لإحدى جوائز "أوسكار" الأميركية المرموقة. وحظي العام الماضي بجائزة في مهرجان "كان" في فرنسا، وكتَبَت عنه أهم وأكبر صحف ومجلات العالم. وساعدني مقال في "نيويورك تايمز" على استيضاح موقفي؛ فقد وَصفَت الصحيفة عملية الشباب الفدائية في الفيلم، بأنّها "جزئيّا إثباتٌ للرجولة"، فالقتال إذن ممارسةٌ للذكورة. وقالت الصحيفة إنّ "أبو أسعد صوّر عالماً تنعدم فيه الثقة؛ كل علاقة فيها احتمالات، وحتى حتمية الخيانة. وكل معنى للشرف تفسده الأكاذيب".
يأخذ الأمر الآن بُعداً يُزعج الإسرائيليين؛ ليست قصة الفيلم، ولا رسالته، وليس اختيار لجنة "الأوسكار" له واستبعادها فيلماً إسرائيلياً اسمه "بيت لحم"، عن علاقة بين عميل فلسطيني وضابط إسرائيلي. إنما ما أزعجهم اختيار الفيلم تحت اسم "فلسطين"؛ أي الاعتراف بفلسطين في قائمة البلدان. وهذا تَقدّم. ففي العام 2002، رُفض فيلم للمخرج إيليا سليمان، لأنّ ترشيح الأفلام يكون من قبل بلدها، وبحسب اللجنة حينها، "فلسطين ليست شعباً". وفي العام 2006، رُشّح فيلم لأبو أسعد ذاته باسم "السلطة الفلسطينية"، فاحتجَ الأخير ووُضِع الفيلم تحت عنوان "المناطق الفلسطينية". والآن، من دون تدخل أحد، وضع تحت اسم فلسطين.
هذا "إنجاز". ولكن حتى أبو أسعد ذاته لا يبالغ بالأمر، ويقول إنّه طالما فلسطين محتلة لا معنى كبيرا للأمر. وما يزعج الإسرائيليين أكثر، أنّ أبو أسعد، وأغلب الممثلين، يحملون الجنسية الإسرائيلية، لأنّهم من فلسطين المحتلة العام 1948، وصُوّر جزء كبير منه في الناصرة، وهم أعلنوا عالميّا هويتهم الفلسطينية.
تُقدّم "الغارديان" البريطانية، بُعداً جديداً، فتقول: إنّ أَبو أَسعد، صنع الفيلم مُتأثراً ببارانويا عاشها، إثر انتاجه فيلمه "الجنة الآن" العام 2006 عن استشهاديين، وكان يَشُك أنّ أحد العاملين معه جاسوس إسرائيلي. وأُضيفَ الشك إلى خوف زرعه والداه فيه طفلا، بأن يحذر عملاء البوليس الإسرائيلي، فأصبح خوفه من العملاء مَرَضيّاً. مثل هذا الكشف يدفع للمزيد من التعاطف مع الفيلم، إضافة إلى السعادة بحضوره الدولي المشجع. ولكني ما أزال أعتقد أنّ هناك تضحيات وجمالا في فلسطين، ونقاء وذكاء، يمكن إبرازها إلى جانب حالة الشخصيات الهشّة المتهافتة.