سنرقّص الشجرة- د.احمد جميل عزم
الراحل ابو عرب يزور مسقط راسه - الشجرة - ارشيف
1) لم يجد الطفل إبراهيم محمد صالح وذووه، مطلع أربعينيات القرن الماضي، بأساً في إعادته الصف الرابع الابتدائي، بعد خروجه من مدرسة القرية "الشجرة"، وذهابه إلى قرية "لوبية"؛ فهذا سيساعده على تقوية لغته الإنجليزية.
ولا بأس أنّ يذهب الطفل، الذي سيُعرف لاحقا باسم "أبو عرب"، إلى طبريا ليكمل الصفين السادس والسابع، وإلى الناصرة ليكمل الثانوية. إذن، هو طفلٌ طاف مدنا عدة، تلميذاً، يعود دائماً إلى قريته بتنوّعها. لم يكن يعيش فيها المسيحيون والمسلمون فقط بتمازج، بل ومعهم أيضاً يهود فلسطينيون جاؤوا منذ زمن قديم وصاروا جزءاً من الأهالي، ومنهم أيضا أكرادٌ جاؤوا من الموصل.
2) الجمعة 7 آذار (مارس) 2014: يتجه كثيرون يتحدّرون من قرية "الشجرة"، ومعهم أهلٌ آخرون، ويلتقون تحت الشجرة الكبيرة هناك، ويحملون عزاء أهل كُثرٍ في الشتات والوطن، ويقدّمونه للقَرية التي تُقام على أرضها الآن مستعمرة أيلانيا من قبل يهود ليسوا فلسطينيين. نَص الرسالة التي تناقلوها لترتيب "رحلة العزاء": سنذهب "إلى قرية الشجرة نعزي القرية وأهلها بوفاة شاعر الثورة، أبو عرب، ولنستمع للفنانة الملتزمة سلام أبو آمنة تغني كلماته...".
كيف جاءت الفكرة؟ كيف يُقدّم البشر العزاء للشّجر والحَجَر؟
3) لطالما خطر ببالي صديقان من زمن الجامعة، أتما خطبتهما، ولكنهما واظبا على تأجيل الزفاف، لأسباب منها أنّ تَوأم الشاب كان فدائيّاً مُعتقلاً. وفي رحلة جامعية، بدأت دُعابةً تحولت إلى حفلة مجنونة. أراد البعض إقامة زفافٍ لهما، وطبيعي أن تَحضُر أغنية أبو عرب "يا خوي ال في الزنزانة"، وتصبح أغنية فرحٍ في موكب العرس المزعوم. وعندما قام العرس الحقيقي البسيط جداً، احتراما للأخ المعتقل، تسللت إلى أغاني أبو عرب كلمات أعطت الصبايا اللاتي غنينها في ساحة الدار جمالا مجنوناً. فأغنية "يا يمّا في دقة عبابنا.. هي دقة فدائية"، توسعت وصارت "يما أنطيني (أعطيني) الفدائي لو بقرشين". ما لم يخطر لي حينها هو كيف تفاعل الشجر والتراب إلى جانب سد الملك طلال، شمال عمّان، مع الشباب وأغنياتهم يوم الرحلة؟ عزاءُ أبو عرب في الشجرة استحضر السؤال إلى البال.
4) في ذات زمن الرحلة، زمن الانتفاضة الأولى، كان شاب يدعى مراد السوداني، هو الآن رئيس بيت الشعر الفلسطيني، يجمع مع أصدقائه، أشرطة أبو عرب ويسجلونها ويعممونها. وكتب قبل أشهر في مقدمة كتاب جُمِعَت فيه قصائد أبو عرب، أنّه "يعيد إنتاج المكان بحدائه وأغاريده الصادحة.. فيرّج المدى ويطلق في الفضاء هدير الحرية والعناد المقدّس...".
5) وددتُ لو أبحث في قصص جيل أو أكثر، في مخيم اليرموك ومخيمات لبنان، عن آخرين انعجنت ذكرياتهم وشبابهم بأغانيه. وقصته هو ذاتهُ معجونة بقصة الوطن؛ هو ابن خال ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر، وهو ابن شهيد في "الشجرة" العام 1948، وكان يومها ابن سبعة عشر عاماً، وابنه المهندس معن استشهد مقاتلاً في لبنان العام 1982. وكان مدرساً مبتدئاً عام النكبة، ينتظره مستقبل في الترجمة وربما السياحة، وأوصله الشتات إلى حمص في سورية، فاشتغل مُترجماً في مصنع سكر، لنحو 34 عاما، كان يغني أثناءها، ويصرّ على غطاء رأسه بالكوفية.
6) ذهب أبو عرب قبل نحو عامين وزار قريته "الشجرة". ووقف تحت شجرة الخروب، وعند عين الماء التي يخبرنا مراد السوداني أنّ لها 42 درجة. وهناك تحت "الخروبة" نقش ابن الناصرة، خالد محاميد، صورتين على حجرين، واحدة لأبي عرب والثانية لناجي العلي.
7) تولى فلسطينيون يعيشون في الإمارات استضافة أبو عرب في الأشهر الأخيرة، وقاموا على علاجه. فكان يغني معهم نائماً وقاعداً، على فراش المرض، بصوتٍ صافٍ، متذكّراً والدته، شاكياً غياب الأحباب الذين كان يلوذ بهم "من الضيم" تحت التراب، ثم يصّر على الذهاب إلى حمص لقضاء أيامه الأخيرة.
8) لماذا نستغرب تقديم العزاء إلى قرية؟ ألم يقل محمود درويش "سنرقّص الساحة، ونزوّج الليلك، سنوقظ هذه الأرض التي استندت إلى دمنا، سنوقظها، ونخرج من خلاياها ضحايانا، سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء، نسكب فوق أيديهم حليب الروح كي يستيقظوا، ونرش فوق جفونهم أصواتنا، قوموا ارجعوا للبيت يا أحبابنا"؟
za1) لم يجد الطفل إبراهيم محمد صالح وذووه، مطلع أربعينيات القرن الماضي، بأساً في إعادته الصف الرابع الابتدائي، بعد خروجه من مدرسة القرية "الشجرة"، وذهابه إلى قرية "لوبية"؛ فهذا سيساعده على تقوية لغته الإنجليزية.
ولا بأس أنّ يذهب الطفل، الذي سيُعرف لاحقا باسم "أبو عرب"، إلى طبريا ليكمل الصفين السادس والسابع، وإلى الناصرة ليكمل الثانوية. إذن، هو طفلٌ طاف مدنا عدة، تلميذاً، يعود دائماً إلى قريته بتنوّعها. لم يكن يعيش فيها المسيحيون والمسلمون فقط بتمازج، بل ومعهم أيضاً يهود فلسطينيون جاؤوا منذ زمن قديم وصاروا جزءاً من الأهالي، ومنهم أيضا أكرادٌ جاؤوا من الموصل.
2) الجمعة 7 آذار (مارس) 2014: يتجه كثيرون يتحدّرون من قرية "الشجرة"، ومعهم أهلٌ آخرون، ويلتقون تحت الشجرة الكبيرة هناك، ويحملون عزاء أهل كُثرٍ في الشتات والوطن، ويقدّمونه للقَرية التي تُقام على أرضها الآن مستعمرة أيلانيا من قبل يهود ليسوا فلسطينيين. نَص الرسالة التي تناقلوها لترتيب "رحلة العزاء": سنذهب "إلى قرية الشجرة نعزي القرية وأهلها بوفاة شاعر الثورة، أبو عرب، ولنستمع للفنانة الملتزمة سلام أبو آمنة تغني كلماته...".
كيف جاءت الفكرة؟ كيف يُقدّم البشر العزاء للشّجر والحَجَر؟
3) لطالما خطر ببالي صديقان من زمن الجامعة، أتما خطبتهما، ولكنهما واظبا على تأجيل الزفاف، لأسباب منها أنّ تَوأم الشاب كان فدائيّاً مُعتقلاً. وفي رحلة جامعية، بدأت دُعابةً تحولت إلى حفلة مجنونة. أراد البعض إقامة زفافٍ لهما، وطبيعي أن تَحضُر أغنية أبو عرب "يا خوي ال في الزنزانة"، وتصبح أغنية فرحٍ في موكب العرس المزعوم. وعندما قام العرس الحقيقي البسيط جداً، احتراما للأخ المعتقل، تسللت إلى أغاني أبو عرب كلمات أعطت الصبايا اللاتي غنينها في ساحة الدار جمالا مجنوناً. فأغنية "يا يمّا في دقة عبابنا.. هي دقة فدائية"، توسعت وصارت "يما أنطيني (أعطيني) الفدائي لو بقرشين". ما لم يخطر لي حينها هو كيف تفاعل الشجر والتراب إلى جانب سد الملك طلال، شمال عمّان، مع الشباب وأغنياتهم يوم الرحلة؟ عزاءُ أبو عرب في الشجرة استحضر السؤال إلى البال.
4) في ذات زمن الرحلة، زمن الانتفاضة الأولى، كان شاب يدعى مراد السوداني، هو الآن رئيس بيت الشعر الفلسطيني، يجمع مع أصدقائه، أشرطة أبو عرب ويسجلونها ويعممونها. وكتب قبل أشهر في مقدمة كتاب جُمِعَت فيه قصائد أبو عرب، أنّه "يعيد إنتاج المكان بحدائه وأغاريده الصادحة.. فيرّج المدى ويطلق في الفضاء هدير الحرية والعناد المقدّس...".
5) وددتُ لو أبحث في قصص جيل أو أكثر، في مخيم اليرموك ومخيمات لبنان، عن آخرين انعجنت ذكرياتهم وشبابهم بأغانيه. وقصته هو ذاتهُ معجونة بقصة الوطن؛ هو ابن خال ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر، وهو ابن شهيد في "الشجرة" العام 1948، وكان يومها ابن سبعة عشر عاماً، وابنه المهندس معن استشهد مقاتلاً في لبنان العام 1982. وكان مدرساً مبتدئاً عام النكبة، ينتظره مستقبل في الترجمة وربما السياحة، وأوصله الشتات إلى حمص في سورية، فاشتغل مُترجماً في مصنع سكر، لنحو 34 عاما، كان يغني أثناءها، ويصرّ على غطاء رأسه بالكوفية.
6) ذهب أبو عرب قبل نحو عامين وزار قريته "الشجرة". ووقف تحت شجرة الخروب، وعند عين الماء التي يخبرنا مراد السوداني أنّ لها 42 درجة. وهناك تحت "الخروبة" نقش ابن الناصرة، خالد محاميد، صورتين على حجرين، واحدة لأبي عرب والثانية لناجي العلي.
7) تولى فلسطينيون يعيشون في الإمارات استضافة أبو عرب في الأشهر الأخيرة، وقاموا على علاجه. فكان يغني معهم نائماً وقاعداً، على فراش المرض، بصوتٍ صافٍ، متذكّراً والدته، شاكياً غياب الأحباب الذين كان يلوذ بهم "من الضيم" تحت التراب، ثم يصّر على الذهاب إلى حمص لقضاء أيامه الأخيرة.
8) لماذا نستغرب تقديم العزاء إلى قرية؟ ألم يقل محمود درويش "سنرقّص الساحة، ونزوّج الليلك، سنوقظ هذه الأرض التي استندت إلى دمنا، سنوقظها، ونخرج من خلاياها ضحايانا، سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء، نسكب فوق أيديهم حليب الروح كي يستيقظوا، ونرش فوق جفونهم أصواتنا، قوموا ارجعوا للبيت يا أحبابنا"؟