حكاية المطر.. عِلم الثورة- د.احمد جميل عزم
يُحكى أنّ الناس كانوا، في زمن ما، يسيرون في أزقة قرية وبين بيوتها، في غور الأردن مثلا، كما أخبرنا ذات يوم أستاذ "علم الإنسان-الأنثروبولوجيا"، فيقومون بطقس استسقاءٍ خاص؛ فإذا وصلوا بيتاً طرقوا بابه لتخرج السيدة حاملة كوب ماء تَرشُقهُ عالياً فيهبط رذاذاً على النّاس.
وفي الهند، يقوم القرويون بصلاة يسيرون فيها بموكب يقوده موسيقيون، يُقدّم لهم الأهالي نقوداً وشاياً وطعاماً، ويرمون أشياء في الماء.
وفي الأسطورة المصرية، تُلقى دُمية (تسمى بالمصرية الدارجة "عروسة")، في نهر النيل لإرضائه ليفيض. ويُعتقد أنّه في الماضي كانت تلقى عروسٌ (فتاة) حقيقية لهذا الغرض. وغير بعيد عن هذا، يوجد في حضارة المايا القديمة، وتحديداً في مدينة تشيتشنإيتزا بالمكسيك، والتي توجد فيها أهرامات شبيهة بالأهرامات المصرية، بئر تُعرف بالبئر المقدسة، كانت تُرمى فيها قرابين، منها قرابين بشرية، إرضاء لآلهة المطر.
ونستمر في إلقاء الأرز على مواكب الأعراس حتى اليوم. والأرز محصول يحتاج كثيرا من الماء؛ فهو رمز للخصب.
تقوم كل هذه الطقوس على فكرة أنّ "الشيء يأتي بمثله". وهي فكرة سَكَنَت الناس قديماً؛ فَيُرشق الماء عاليا علّه يأتي بالمطر، ونُقدّم الطعام والفتاة والأرز لنأتي بالخصب.
تَستفزُ الصراعات والحروب هذه الأفكار والمشاعر؛ فالدّم يأتي بالدّم. وفي اللغة العربية تعبيرات مجازية شائعة عن تقديم الشيء ليأتي بمثله، من نوع "لا يفلّ الحديد إلا الحديد"، و"روّى الأرض بدمه". وفي مُضاهاة لحديث "عروس النيل" نقول: "قدّم روحه قُرباناً للحرية".
عندما يرتقي شهيد على يد قوة مُعادية مُحتلّة، تُستنفر أفكار الدم وقرابين الحرية، والردّ على الرصاص برصاص. وهذا الأسبوع ارتقى شهداء عدة في فلسطين، منهم شهيدان سيتذّكرهما الناس طويلا.
الأول قاض أردني فلسطيني، قُتل في إحدى محطات الإهانة الحتمية على الحدود للدخول إلى فلسطين، فاجتمع من أجله القضاة والمحامون في قصر العدل بعمّان في مشهد لن ينسى. والثاني طالب أعزل من جامعة بيرزيت، عبّر زملاؤه عن حبهم له على نحو فريد؛ إذ "قرروا" أن يمر في طريقه إلى قريته بَيتين، بالجامعة. فجاء كما الشهداء سافر الوجه، مَلفُوفاً بالعَلَم، فبكاه أساتذتهُ بدمع سخي، وبكته زميلاته بدمعهن وشحوبهن، وشيّعه زملاؤه بالهتاف وبتنافسهم فصيلاً بعيد فصيل على التمسّح به وزعم انتمائهم له. فاستحالت الجامعة كتلة بشرية واحدة ملوّنة، بما تجمعه الجامعات من تنوع الانتماءات المناطقية لأبنائها، وتنوع ملابسهم وأنماط حياتهم؛ فكان طبيعيا أن يقول بعض الحضور: "يا وطن الشهداء تكامل". وكان مؤثّرا وعبقريّا طواف رفاقه به شوارع الجامعة التي أحبّها، وأن "يتخرج" من الجامعة، وأن يقول أحد مدرسيه سأبقى أُسجّله حاضراً في المساق.
وفي بَيتين، المستّقرة على مُرتفع يُطل غرباً على رام الله، وشرقاً على الأردن، وقف عمداء الكليّات وعمداء الأسرى المحررين، وعرب وأجانب، والجماهير، وتحدّث رفاقه عن "الرّد". وفي المساء، أعدوا أغنيات لروحه تضم صورته مُبتسماً ضاحكاً على حصانه في الحقول. أمّا أمه، فاختصرت كل معاني الأمومة وهي تبكي "أرجعوه إلى حضني لعله يعود للحياة".
اكتشفت البشرية الآن طرقاً علمية وطبيعية تُسهم في سقوط المطر وزيادة خصوبة الأرض؛ مثل المحافظة على الثروة الشجرية التي تزيد تبخر الماء، فتكون كما رشقة ماء للسّماء. بل ويوجد ما يسمى استمطارا؛ فتصعد طائرات تُنزل الماء من الغمام.
للمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي نظريته "التحدي والاستجابة"، التي تتحدث عن سقوط الحضارات واختفائها، إن لم تكن استجابتها للتحدي مناسبة كمّاً ونوعاً.
جرب الفلسطينيون "استجابات" عديدة في مسيرتهم، حالت دون هزيمتهم كُليّا أو أن يختفوا، ولكنها لم تحقق النصر بعد. الدّماء الفائرة في العروق يجب أن تظل كذلك، ولكن بعيداً عن الفعل ورد الفعل؛ فللاستمطار في العالم الجديد قواعده.
لقد كان مشهد الوحدة والوطن المتكامل رشقة ماء للاستمطار. ولو أديرت المقاومة الجماهيرية الشاملة المدروسة بعيداً عن ترهلٍ لا يرى سوى الدبلوماسية والمفاوضات، وبعيداً عن جُزر مقاومة ومبادرات معزولة عن استراتجية وطنية موحدة فيها مقاومة جماهيرية شعبية، واقتصاد، وتعليم، وسياسة، وإعلام، فإن هذه الجماهير ستكون شجر الاستمطار وطائرته.. وسيسقط المطر.