"البطل الشهيد"- د.احمد جميل عزم
نبكي الشهيد دَمعاً سخيّاً، ولكن تؤرقنا محاولة البعض حصره في زواياهم.
يخبِرني صديق اسكتلندي أنَّ "مفهوم الشهادة لديكم مختلف".
فالشهيد عندهم (برأيه)، يجب أن يكون قد مات وهو يدرك أنّه ذاهب للموت؛ مقرراً التضحية بذاته لأجل المجموع، أو لأجل قضية يؤمن بها.
وبرأيه أنّه في الثقافة العربية، يبدو أنّ الموت على يد الأعداء كافٍ لجعل الشخص هو "الشهيد البطل".
يبدو أنّ كثيرا من الفصائل والجماعات وأصحاب الصوت المرتفع من قادة المسيرات والمظاهرات والخطابات، باتوا يشاطرون الصديق الاسكتلندي الرأي، فيُصرّون على "عسكرة" الشهيد، وتحويله إلى عضو في الفصيل.
يقتبس عبدالرحيم الشيخ، في دراسته "تحولات البطولة في الخطاب الثقافي الفلسطيني"، والتي نُشرت في آخر عددين صدرا من مجلة الدراسات الفلسطينية، عبارة من مسرحية "حيلة غاليليو"، للألماني برتولد بريخت، قالها غاليليو غاليلي العام 1633 في روما.
إذ يخاطبه تلميذٌ له بقوله: "تعيسٌ هو البلد الذي ليس فيه أبطال". فيرد غاليليو: "كلا، تعيس البلد الذي يحتاج إلى أبطال".
يمكن تفسير حديث غاليليو بأنّ البلد الذي يحتاج إلى أبطال هو، بالضرورة، بلد في محنة، يحتاج التضحيات والألم. أو أنّ سعي البعض للبطولة يرافقه اصطناع معارك عبثية.
لكن الشيخ يأخذ من محمود درويش أيضاً مقولته العام 1999، في رام الله، أنّ البطل شخص مرّ في تحولات ثم "لم يَعُد البطل شبقاً لأن يبقى بطلاً، ولا يريد أن يتمتع بمكانة الضحية، يريد أن يتحول إلى إنسان عادي".
يستشهد شاب فلسطيني ممتشقا سلاحاً يقاتل، ويستشهد شاب جاء أعزل يحمل جثمان الشهيد، ويستشهد شاب من نفس الحي أو المخيّم وهو ذاهب لمكان عمله. وتتسابق الفصائل لإعلان انتمائهم لها، ويتقاسمونهم، ويعلنونهم أفراداً في أجنحتها المسلّحة. يقول الشيخ: إنّ بريخت أراد اجتماع مبررات البطولة ومبررات نفيها في اللحظة التاريخية ذاتها.
هناك، كما يقول الشيخ، من يسعى "للبطولة التراجيدية"، أي القائمة على الحدث الصاخب والدامي والمؤلم، مقابل بطولة "الإنسان العادي"، وهو بالضرورة ليس الإنسان المستكين أو "المُسالِم"، بالمعنى السلبي، وليس الذي يتجه للحياة من دون حلم وخيال، ومن دون أن تكون الحرية والقدرة على الحلم والتخيل هما خبزه اليومي.
البطل لغة، كما "يتلمّس" الشيخ، متصل مع مفهوم "الإِبطال"، وربما هو إِبطال حياة الاحتلال غير الطبيعية، من دون أن يعني هذا تجاهل وجود الاحتلال.
في الموروث الإسلامي يكون الشهيد شهيداً أحياناً في سعيه للرزق، وسعيه للعلم، ومن يرفض الخروج والإخراج من أرضه وبيته.
إذا كان الشهيد ذاهباً لعمله رغم الاحتلال، وساعياً له فهو شهيد قاتل دون حياته، ولا داعي للقول إنّه كان في مهمة نضالية، إلا إذا كان العمل هو بالضرورة مهمة نضالية.
قبل الحركة التي أطلقها محمود درويش نهاية التسعينيات، واعياً لما يفعل أو غير واعٍ، بشأن مفهوم البطل، والتي يتتبعها الشيخ في دراسته، تحدثت سلمى الخضراء الجيوسي، في نهاية الستينيات، عن "بطولة الصوت الخفيض"؛ لأولئك الذين يمارسون أنواع بطولة تتكامل مع البندقية، وقد تختلف عنها، والحرية والسعي لها، بشتى الطرق.
شُبّان الناصرة ورام الله، الذين ابتكروا في السنوات الأخيرة شعارا يهتفونه في احتفالاتهم، بما فيها احتفالات رأس السنة الميلادية، وهو "نعيش وتحيا فلسطين"، هم أنفسهم الذين يغنون في الاحتفال عينه للكفاح المسلّح والبندقية، ويسخرون من المفاوضات المزمنة.
وأنا أقابله في مخيم "بلاطة"، لم أعد أسمع كلماته متحدثّاً عن شقيقه، أحد أبطال الكفاح المسلّح القابع في الأسر محكوما بمئات السنوات، بل سرحتُ في توترات جبينه وصوته، وهو يروي بصوت خفيض ما حدث للعائلة، ويروي من دون شعوره بأنّه فعل شيئا غير عادي، كيف قاد إعادة بناء البيت، وهو يُخفي ما فَعَلَه ليجعل حياة الآخرين طبيعية. وكلما تذكرت البطل في المعتقل، تذكّرت هذا البطل المتوتر، الذي يَكبح دمعته.
عندما يستشهد شابٌ جميل وسيم مبتسم، طالب جامعة استحم وتَوضّأ وصّلى، ومشى لإطعام خِراف العائلة، وكان يحلم بالحرية والوطن، فهو "الشهيد البطل"، من دون الحاجة إلى "عسكرته".
والشهيد يا صديقي الاسكتلندي العزيز هو أيضاً من يستشهد ذاهباً للحياة فوق أرضه، حيث يجب أن يبقى بإصرارٍ حد الموت.