تصحيحات ضرورية للوطنية الفلسطينية - صالح عوض
تملكني شعور بأنني إزاء بعث جديد لحركة فتح، بعد أن ظن كثيرون أن معالمها قد درست ..وتمثل لي الرئيس محمود عباس قائد حركة فتح وهو يلقي خطبته في المجلس الثوري كمعلم يشرح دروس التاريخ، ويذكر بالأفكار الأساسية ويسلط الضوء على المسيرة بتأن وتدبر بالغي الأهمية، تمثل لي كطبيب يستأصل الزوائد الضارة، ويطوح بالأفكار والنتوءات والطفيليات الانتهازية التي تعيشت على دم الحركة سنين طويلة تمتص دمها كقراد الخيل، بل أسوأ من ذلك عندما تتحوّل إلى أدوات ضغط على القرار الفلسطيني..
هذه هي فتح التي عرفناها منذ عشرات السنين تركب الموت لكي تصل إلى الحياة، وتخترق النار لتنقذ القرار الوطني الفلسطيني، وانحياز كامل للشعب وقضيته ومصلحته ضد الأجندات..
فتح التي صبغت كل المنطقة بروحها وعلمت على المقاومة كل تيارات المنطقة الفكرية والسياسية..
فتح التي أخرجت الشعب الفلسطيني إلى الحياة لإسقاط المشروع الصهيوني.. وسارت به في كل المواجهات لإثبات ذاته ليكون باقتدار طليعة المقاومة العربية فأعطاها حبه وولاءه، فكره من كرهت وأحب من أحبت، فكانت هي قاطرة مشروع الكفاح الفلسطيني المعاصر.
محمود عباس الرئيس الفلسطيني وأحد مؤسسي حركة فتح التاريخيين، خرج للوضوح والمكاشفة وفي لحظة فلسطينية فارقة ليلقي خطابا مطولا يعتبر بلا شك عملية نفض لكل ما ران على مواقفه أو مسيرة حركته من لغط أو أقوال من هنا أو هناك..
وجعل لخطابه محاور أفاض في شرحها وتقديم الأدلة على استنتاجاته.. الأمر الذي سيكون له ما بعده.
كانت العلاقة بالنظام العربي هي المحور المهم الذي تجلى في الخطاب.. فكانت الرؤية واضحة كفلق الصبح، وكأن فتح لازالت في كل عنفوانها وفتوتها ونقائها الوطني وأثناء سرده لما لاقت حركة فتح من النظام العربي السوري والعراقي والليبي وسوى ذلك.. كان أبو مازن يشرح الأحداث كأنها حصلت أمس بكل صراحة وجرأة.. وكان بذلك يضع للفلسطينيين خطوطا حمراء في العلاقة بالأنظمة مهما كانت توجهاتها.. وشرح أبو مازن ما تعرضت له الثورة الفلسطينية من مؤامرات لتفريغها وصدها وكسرها، وكيف كانت أساليب الأنظمة لاسيما السوري والعراقي في إحداث انشقاقات في صفوف الثورة كلفت الشعب الكثير من التضحيات.
في هذا الجزء من خطاب أبو مازن شعر الفلسطينيون أن لهم بيتا ينبغي أن لا يتحاوروا خارجه، وأن لا يكونوا معاول بيد أجندات خارجية لهدمه.. لأن الفلسطينيين في مواجهة المقولة الصهيونية التي تنفي وجودهم لا يملكون إلا التشبث بوطنيتهم وإظهار قوتها وإعلاء شأنها وصولا إلى استرداد حقوقهم.
لقد لاقت الوطنية الفلسطينية في خطاب أبو مازن الأخير بعثا روحيا كبيرا وعنيدا، لاسيما وهو يتحدث عن الضغوط الدولية جاعلا من المصلحة الوطنية فيما يخص الوحدة الوطنية والكل الفلسطيني قاعدة ارتكاز لا تفريط بأي جزء منها.
لقد كانت الفصائل الفلسطينية بل والشعب الفلسطيني بحاجة إلى الاستماع لقيادته في هذه المرحلة بأن الوطنية الفلسطينية بخير وأن لا تنازل عن القرار الفلسطيني وأن مصلحة الشعب هي المحرك الوحيد لحركة قواه السياسية.
من هنا يتم تناول المسألة السياسية والمفاوضات والضغوط.. وإن اختلف بعضنا أو اتفق مع سير المفاوضات أو مع ما يمكن أن ينجم عنها إلا أنه لا ينبغي الاختلاف على أن المصلحة الوطنية هي الدافع خلف كل جهد يتم في هذا السياق.. والمسألة هنا تقديرية ولكل واحد الحق أن يقول ما يرى.
وكان المحور الثاني محور المصالحة وهنا كان لابد من التأكيد على ضرورة الامتلاء بالثقة بالنفس، وأن لا نتخوّف أكثر من اللازم بخصوص الضغوط الأميركية على القرار الفلسطيني .. وأن العملية السياسية لا تفترض أن نفقد القدرة على معرفة أين تكون مصلحتنا الوطنية بل ينبغي أن يكون إيماننا كبير بأن مصلحتنا الوطنية مسبقة على أي اعتبار آخر.. لأنها أصل من أصول مشروعنا الوطني، وهي من الوجهة السياسية بمثابة قوة لنا في كل مناشطنا السياسية والاجتماعية.
وهنا أصبح الأمر جليا أمام الجميع، أمام كل مكونات الوضع السياسي لضرورة التوجه فورا إلى المصالحة وبناء المؤسسات الفلسطينية المعبرة عن وحدة وطنية ضرورية لمواجهة التحديات المطروحة، وهذا يستدعي تنازلات من أجل الشعب ومستقبله وأن لا تقف دون ذلك مصالح حزبية أو شخصية مهما عظم أمرها..
إن كل الوضع السياسي الفلسطيني يواجه تحديات فالعملية السياسية تواجه تحد التعنت الإسرائيلي والتطرف الذي تمارسه مؤسسات الاحتلال في كل ما يمس الوجود الفلسطيني، كما أن حركة حماس تواجه تحديات من نوع خاص كعلاقتها المتردية مع سوريا وإيران وحزب الله أي مع جبهة الممانعة، وفي الوقت نفسه تشهد علاقتها بمصر توترا شديدا.. من هنا تصبح المصالحة مصلحة وطنية للجميع لفتح وحماس وكل المكون السياسي الفلسطيني، فضلا عن المردود الإيجابي السريع على الشعب.
المحور الأخير في خطاب الرئيس الفلسطيني هو ما جاء بالتفصيل والأدلة من تهم لجهاز الأمن الوقائي بغزة وتورط بعض قياداته في قضايا خطيرة من تصفية مناضلين كبار كأسعد الصفطاوي قائد حركة فتح في غزة وصلاح شحادة قائد القسام، وهشام مكي مدير الإذاعة والتلفزيون وآخرين.. وعرج الرئيس على ذكر مفاسد الجهاز بقيادة دحلان وصديقه خالد سلام وكيف تورط الاثنان في صفقات بيع السلاح في المنطقة والعلاقة بالإسرائيليين. والتجسس على حزب الله وعلى حماس لصالح إسرائيل.
صحيح أن هذه القضايا تحتاج إلى محاكمات عادلة، ومن هنا فإن تسليم دحلان نفسه للقضاء الفلسطيني، الخطوة الفورية الضرورية، لكي يواجه محكمة عادلة، وتقدم حينذاك كل التهم والأدلة والشواهد، وليدفع عن نفسه بكل حرية.. اما أن ينبري دحلان من خلال وسائل إعلام للهجوم اللفظي والسباب والشتم كعادته فإن هذا لا يرفع عنه أي تهمة، بالعكس فإنه سيزيد التهم وبالا عليه.. وإما أن يوكل محاميا إسرائيليا للدفاع عنه فهذه مسألة يحمل وزرها من جديد.
إننا شاهدنا وعايشنا مرحلة كان فيها دحلان يعقد الندوات، يسب على الرئيس الرمز ياسر عرفات ويشتمه في عرضه وخلقه وسياسته، بل ويتكلم عن أدق خصوصياته.. ولا ندري لماذا لم يقلع بعد عن هذا الأسلوب.. إنه لا يعرف أنه سيسقط على مقصلة عدم معرفته باختلاف أسلوب الرجلين أبو عمار وأبو مازن.. فلئن كان أبو عمار يعرف ويصمت ويتجاوز فإن أبو مازن يعرف ويصمت لكن ليأخذ القرار الحازم في وقته.
ملف دحلان انتهى.. ويكون دحلان أنهاه بيديه.. ويرى البعض أن حركة فتح بدون دحلان أكثر ودا وأكثر فلسطينية وأكثر رحمة بأبناء الشعب الذي اكتوى بفرقة الموت والسلوك المتفرعن في أوساط الشعب..
لقد قال أبو مازن ما يرفع عنه الحرج ويبعث في فتح روح جديدة..
عن الشروق اون لاين
ــــــــــــــــــ