محمد المسروجي .. عندما قاومت الصناعة الفلسطينية الاحتلال
وفا- زلفى شحرور
غداة احتلال إسرائيل الأرض الفلسطينية في الخامس من حزيران عام 1967، لم يجد رئيس مجلس إدارة شركة القدس للمستحضرات الطبية محمد المسروجي، ومثله فلسطينيون كثيرون من طريق، سوى البحث عن خيارات جديدة، تجنبه التعامل مع سلطات الاحتلال، في صراع بقاء لا زال قائما بعد أكثر من أربعة عقود.
كان المسروجي (79عاما) ، أحد كبار مستوردي الأدوية في فلسطين منذ العام 1959، يملك العديد من المخازن في مدينة القدس، ومع سيطرة سلطات الاحتلال على مقدرات المواطنين، وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستمرار بتجارته حسب الشروط الإسرائيلية التي تحرمه حقه في الاستيراد، وتشترط عليه التعامل مع التاجر الإسرائيلي، أو البحث عن خيار آخر للعمل.
وقد وجد ضالته في إعلان بالصحف، عن بيع مصنع وكيل لشركة أميركية كما يقول، "المصنع كان يعمل في صناعة الأدوية في تل أبيب، وإعلان البيع كان على خلفية المقاطعة العربية للشركات التي تتعاون مع إسرائيل من قبل الجامعة العربية، فقررت الشركة الأم بيعه".
وقال المسروجي في حديث لوكالة "وفا" في مكتبه بمقر الشركة، التي يصل حقوق المساهمين فيها اليوم لنحو 25 مليون دولار: "قمت بشراء المصنع مع حق المعرفة الخاص بتركيبة الأدوية التي يصنعها، كما اعتمدنا في البداية على علاقتنا الجيدة بشركات الأدوية التي قدمت لنا المعرفة العلمية اللازمة، وبدأنا العمل في العام 1969 بدون ترخيص".
وظل يعمل بدون ترخيص حتى العام 1971، ليصبح،على الأغلب، أول مصنع فلسطيني يحصل على ترخيص من سلطات الاحتلال لممارسة العمل.
ليس هذا فحسب، بل إن صناعة ألأدوية الفلسطينية ازدهرت بالرغم من كل معوقات الاحتلال، بفضل شجاعة وريادة المسروجي وصناعيين آخرين، لتصبح واحدة من أفضل مثيلاتها في المنطقة بإنتاج يصدر العالم.
ونمت صناعة الأدوية في فلسطين وتوسعت خلال العقود الثلاثة الماضية، لتصبح سوقا يقدر بنحو 120 مليون دولار سنويا تضم تسعة مصانع، سبعة منها في الضفة الغربية، واثنان في قطاع غزة وتتركز صناعة الأدوية بشكل رئيسي في محافظة رام الله والبيرة. حيث تعمل أكبر الشركات وهي شركة بيرزيت- فلسطين، والقدس، ودار الشفاء.
وتوفر هذه الصناعة أكثر من ألف فرصة عمل مباشرة، وتستحوذ على ما نسبته 50 و55% من حجم السوق الفلسطينية.
وكان المسروجي يعمل بيديه في مصنعه الجديد، بمساعدة مختصين في مجال الصيدلة، مثل رنا الحسيني عضو مجلس إدارة في الشركة، معتمدا عل تدريب العاملين لديه من قبل موردي الأجهزة.
وعن تجربته هذه، يشرح: "كنا نحصل على المواد الخام اللازمة من الشركات الإسرائيلية، والتي كانت تبيعنا هذه المواد بسعر السوق، حتى تمكنت من الحصول على ترخيص للمصنع، ما منحني حق استيراد المواد الخام اللازمة له"، مؤكدا عدم إدخال أي منتج إسرائيلي في صناعته، منذ ذلك التاريخ.
وأضاف: "لعب البعد الوطني دورا مهما في حماية صناعتنا في بداية عمرها، وتضامن معنا الأطباء حتى أخذنا سمعة جيدة، وتطور الأمر معنا حتى اليوم، حتى أصبحت أدويتنا لا تقل جودة عن المنتجات الأوروبية، حيث حصلت الشركة على شهادة الأيزو9001 وأيزو4001 وشهادة التصنيع الجيد، وساعدنا في تحقيق هذه المكانة قيام السلطة الوطنية، والتي أصبح العمل في ظلها أكثر سهولة وأريحية".
ويضيف: "لكن المطلوب من السلطة أن تتدخل في بعض الأسواق ليكون لنا حصة فيها، خاصة وأننا وصلنا متأخرين لهذه الأسواق والعيب ليس فينا، وإنما بسبب الاحتلال، الذي حال دون وصولنا للكثير من الأسواق، حيث اقتصر عملنا في البداية على السوق المحلية".
وتعمل شركة القدس للمستحضرات الطبية في مجالات تصنيع وتطوير الأدوية البشرية، ومنتجات العناية الشخصية والمنزلية، والمنتجات البيطرية والزراعية، وتنتج أكثر من 200 مستحضر دوائي، وأكثر من 150 مستحضرا من المنتجات الأخرى.
وللشركة مصانع في فلسطين والأردن والجزائر، ويعمل فيها أكثر من400 موظف، من أصحاب الكفاءات العالية والتخصصات المختلفة.
ويقف الاحتلال حجر عثرة أمام تطور الاقتصاد الفلسطيني، وذلك بسبب ربط هذا الاقتصاد بالاقتصاد الإسرائيلي، ويهدف من ذلك إضعاف الشعب الفلسطيني ماديا واقتصاديا ومعنويا.
كما يهدف كذلك، إلى إضعاف الشعب الفلسطيني سياسيا، حيث تعتقد سلطات الاحتلال أنها قادرة على تحقيق مكاسب سياسية مقابل بعض التسهيلات الاقتصادية .
وعلى الرغم من التفاؤل الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة في أيلول القادم، لطلب الاعتراف بالتعامل مع فلسطين كدولة، تظل حدود التفاؤل على المستوى الاقتصادي محدودة، لأنه بدون جلاء الاحتلال سيظل الوضع الاقتصادي أسير الاحتلال، ولن يتحرر إلا بتحرر المعابر والسيطرة على الحدود.
وهو ما أكده تقريرا البنك الدولي وسلطة النقد الدولي، اللذين رفعا للأمم المتحدة وإلى اجتماع المانحين في نيسان الماضي، جاهزية المؤسسات المالية والاقتصادية للعمل كمؤسسات دولة، لكن ذلك يظل مرهونا بإنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقادرة على التحكم بمعابرها.
ويجمع الاقتصاديون الفلسطينيون على وجود قدرات كامنة كبيرة للاقتصاد الفلسطيني، لا يمكن إطلاقها بدون إنهاء الاحتلال.
وهو ما يؤكده المسروجي وغيره من رجال الاقتصاد، الذين يروون أنه لا تنمية في ظل الاحتلال، وأن قدرة الاقتصاد الفلسطيني كان يمكن لها أن تتضاعف، فإسرائيل بإجراءاتها ترفع تكلفة الاستثمارات، فالمنتج الفلسطيني ربما يكون من أعلى المنتجات العالمية تكلفة.
ويقول رئيس غرفة تجارة وصناعة رام الله والبيرة صلاح العودة: "يكفي أن نكون تخلصنا من العبء السياسي للاحتلال، لأن أخطر ما يواجه الاقتصاد الفلسطيني هو التحديات السياسية".
ويضيف: "لا يمكن رسم صورة محددة دون معرفة طبيعة النظام القائم وسياساته الاقتصادية".
ويستشهد الاقتصاديون بما يمكن أن يكون عليه الحال في ظل الاستقلال، بتجربة قيام السلطة الوطنية واتفاقيات أوسلو وما نتج عنها من اتفاقيات، ورغم أنها لم تصل لمرحلة الاستقلال الكامل والتحكم في الموارد وعلى الرغم من عانته السلطة خلال هذه الفترة من انتفاضة وإجراءات إسرائيلية من حصار وتدمير ومصادرة أراضي .
فمن وجهة نظرهم كانت هذه المرحلة أكثر راحة من قبل، والتي يعيدونها للضخ المالي من قبل الدول المانحة من جهة، ودخول استثمارات بأرقام لم تعرفها الأرض الفلسطينية من قبل، إضافة إلى بعض العلاقات التي نسجتها السلطة من خلال المستوى الرسمي والأهلي، ما ساهم في تطور الاقتصاد القائم.
ويقارب المسروجي صورة الوضع الاقتصادي لفلسطين بالوضع القائم للاقتصاد الأردني، حيث ذكر أنه "يماثل اقتصادنا حينها، إن لم يكن الوضع على كافة المستويات أفضل من الأردن، حيث كانت تعتمد الأردن على الضفة بصورة رئيسية في المنتجات الزراعية، وظل ذلك الوضع حتى بعد الاحتلال لفترات".
ويضرب مثلا على مقاربته هذه، بمستشفى رام الله الذي كان يحتل الموقع الثاني في المستشفيات، بينما يصنف اليوم في المرتبة 200 ربما، ولم تتجاوز موازنة الأردن في خمسينات القرن الماضي "عشرة ملايين"، وهي اليوم تصل إلى "عشرة مليارات" إن لم تكن أكثر.