طريق الزبدة.. طويلة ومرّة
جميل ضبابات
التساوي بالسن، واحد من أمور كثيرة تجمعه بزوجته، لكن أحمد خلف، الذي كان قد حظي بشهرة عابرة في وسائل الإعلام المحلية والدولية، بعد أن جره ضابط إسرائيلي هو ودبلوماسية فرنسية أمام عدسات الكاميرا في منطقة مكحول شرق الضفة الغربية، يحظى بشهرة تاريخية أخرى عمد للتخلي عنها جزئيا تحت وطأة التقدم بالعمر.
إنها الشهرة في صناعة الزبدة والسمن البلدي.
ومعلوم، أن سكان بلاد الشام يصنعون الزبدة والسمن غالبا في الربيع، وفي فلسطين والأردن اشتهرت المناطق الريفية بصناعة مشتقات الحليب حتى مع دخول المكننة على خطوط الإنتاج الصناعي.
وآل خلف هم من القلائل جدا الذين ظلوا يصنعون الزبدة من خلال واحدة من طرق الصناعة الأولى في التاريخ البشري.
وإذا كان عمل الفلسطينيين في قطاع الثروة الحيوانية بحد ذاته تحديا أمام ظروف صعبة، فإن أحمد وزوجته نجية ذاتهما، عاشا هذا التحدي منذ لحظة ولادتهما قبل 75 عاما.
لكن التحدي الصامت الذي تواجهه القطاعات الزراعية هو استمرار صناعة مشتقات الحليب بالطرق التقليدية.
في الأعوام الأخيرة وجد أحمد خلف وزوجته وكلاهما تخطيا الـ75عاما، نفسيهما غير قادرين على إكمال رحلة طويلة من العمل في تربية المواشي.
وقالت نجية التي عليها أن تحلب المواشي مرة واحدة على الأقل يوميا، إن عددا قليلا من النساء ما زلن قادرات على استخراج الزبدة بهذه الطريقة.
وقد يحول الفلسطينيون الزبدة إلى سمن بلدي نادرا ما أصبح يجري استخدامه في المطبخ المحلي.
وقالت نجية 'لا نستخدمه، كبرنا'.
فعلى امتداد منطقة شرق الضفة الغربية التي يتركز قطاع الثروة الحيوانية، أمكن فقط تسجيل عدد يتناقص سنويا من الفلسطينيين الذين ما زالوا يحتفظون بـ'الشكوة' وهي المعمل البشري الأول لصناعة الزبدة والسمن.
وتفسر كتب تحليل المصطلحات المختفية 'الشكوة'، بأنها جلد حيوان تتم خياطته لوضع اللبن داخله وخضه لاستخراج الزبدة. كانت نجية ذاتها واحدة من أشهر نساء المنطقة التي تسكن فيها ليس في صناعة الزبدة، إنما في صناعة أفضل شكوة، كما تقول.
واقفة إلى عمود حديد تظهر المرأة في منتصف النهار تخض سعنا من الجلد مملوء باللبن لاستخلاص القليل من الزبدة بالطريقة ذاتها التي عملت فيها خلال عقود طويلة.
وتعلق الشكوة من طرفيها إلى أعمدة خشبية أو حديدية كي يسهل خض الحليب داخلها.
قالت نجية التي تنفخ في الشكوة بين الحين والآخر لتعويض الهواء المتسرب منها، 'إن أقل من نصف ساعة من الخض المتواصل ستخرج الزبدة بيضاء كأنها مقطوعة من كوم كبير'.
وعلى الفلاحين أن يتجنبوا حرارة الشمس للحفاظ على تماسك الزبدة كي لا تسيل، لذلك يجري تبريد اللبن أثناء خضه بالماء لمجرد الإحساس بأن حرارة الجو ارتفعت.
ويمكن لنجية أن تفحص فيما إذا كان اللبن قد أثمر زبدة أم لا عبر دس أصابعها من فتحه للشكوة، وإذا تأدت أنها بحاجة للمزيد من الخض، تنادي أبو خلف لجلب المزيد من الماء لوضعه في اللبن.
ويظهر أبو خلف مساعدا جيدا لزوجته.
وغالبا ما تنتج الزبدة لاستخدام منزلي.
في أسواق الضفة الغربية يندر جدا عرض منتجات تقليدية مثل السمن والزبدة، لكن الفلسطينيين يعتمدون إلى حد كبير على الأجبان البيضاء المنتجة بطريقة تقليدية وتسمي بالجبن النابلسي نسبة إلى نابلس التي كانت السوق الأكبر لتجارة مشتقات الحليب.
وتشير أرقام إلى أن أكثر من نصف كمية الحليب ومشتقاته تستورد من السوق الإسرائيلية.
وقال د. جهاد الإبراهيم وهو مستشار في وزارة الزراعة، إن صناعة الأجبان التقليدية يتركز في الجنوب 'هناك ثقافة زراعية فلسطينية تنحصر. هناك تحول تدريجي في هذا القطاع'.
لكن رحلة الفلسطينيين الطويلة في هذا القطاع شاقة بسبب قيود إسرائيلية تجعل الحياة مستحيلة. فآل أبو خلف ذاتهم تعرضوا خلال عقود إلى ضرب وتنكيل واستيلاء على ممتلكاتهم من قبل الجيش الإسرائيلي.
ويبدو الحفاظ على هذه المهن مهمة مستحيلة أمام أحمد خلف وزوجته، فقد ظهر الرجل على شاشات التلفزة يفك أزرار قميصه ويطلب من الضابط الإسرائيلي الذي جره بعيدا عن منزله بأن يطلق النار عليه قبل أن يخلي مسكنه.
'الحياة دفلى' قال أبو خلف وهو يتابع زوجته التي تخض اللبن، وهو بذلك يشير إلى شجرة مرة سامة تنمو في حوض المتوسط. 'لكنها حلوة' قالت الزوجة.
وأضافت، 'يمكن أن تتذوق الزبدة بعينيك. إنها حلوة'. وتنفرج شفتا المرأة عن ابتسامات متتالية كلما استرسل الزوج في سرد حكايات طويلة عن صيده غزال قبل 15 عاما للاستفادة من جلده لصنع الشكوة.
ويمكن أن تصنع الشكوة من جلد الحيوانات الصغيرة، لكن يبدو جلد الغزال الأفضل. وبعد أكثر من 15 سنة ما زال المعمل الصغير قادرا على حفظ اللبن وإنتاج الزبدة رغم عمر صانعته الطويل المليء بالشقاء. وأمكن مشاهدة آل أبو خلف يدعون بعض الضيوف لتذوق الزبدة الطازجة بعد إخراجها.
'إنها بيضاء. ثقيلة'. قالت نجية التي عاشت رحلة شاقة طويلة مع الزبدة، قبل أن يسمع صوت إطلاق نار قوي لا يتوقف في الطريق إلى المنطقة التي ترعى فيها مواشي آل أبو خلف.