مصالحة الوقت الضائع أم المستقطع... - د. عبد المجيد سويلم
كان لدينا كل الوقت للمصالحة ولم نتمكّن من إنجازها، وكان لدينا كل الدوافع والأسباب التي تدفعنا إليها ولم نفعل، وكان لدينا من التحديات والمصاعب ما يحتّم العمل على إنهائها ولم نعمل، وكان علينا أكثر من ذلك وقبل ذلك المسؤولية الوطنية للبحث في أبعادها وعقباتها والأطراف التي تمنعها وتعمل على تكريسها وبقينا نقول نفس الكلام، ونفس العبارات ونفس المناشدات، ونفس الأحكام والتصورات.
لو كان الأمر يتعلق بأيام أو عدة أسابيع أو بعض الشهور لتفهم الناس (وإن على مضض) أن يكون خطاب المصالحة مُعادا ومكرّرا حتى بات ينطبق على حالنا ما كان يكرره أهالي ضيعة غُربة أثناء الفحص الطبي الجماعي السنوي أو في "الاحتفالات" التي كانت تجريها السلطة الحاكمة للأهالي في مسرحية دريد لحّام الرائعة.
كنتُ أستمع إلى تصريحات قادة حركة حماس وإلى قادة المنظمة حول المصالحة على مدار ما يقارب السنوات السبع الماضية وأستطيع الآن عن ظهر قلب أن أعيد عليكم ما قيل حول المصالحة وما كان يقال في فترات "المدّ والجزر" ولولا خوفي عليكم من الملل وبل وخشيتي من عدم مطالعتكم للمقالة وربما مقاطعة مقالاتي مستقبلاً لفعلت، لا لشيء بل لأثبت "لي" ولكم ولكل عباد الله السامعين والمشاهدين والمطالعين أن خطاب المصالحة يخلو ـ أو يكاد وبالكامل ـ من عبارة واحدة تنطوي على مصارحةٍ من نوع ما أو نقد موضوعي صادق أو أي نوعٍ من أنواع الشجاعة الأدبية للاعتراف بالخطأ أو حتى التسامح والتسامي إذا تعذّرت المصارحة والمكاشفة والشجاعة في المواجهة والجرأة الأدبية للاعتراف بالنواقص.
فإذا كنّا قد فشلنا في إنجاز المصالحة على مدى ما يقارب السنوات السبع فإن هذا يعني منطقياً أننا لم نقف ولا لمرّة واحدة أمام واقع الانقسام من حيث أسبابه وأهدافه وآليات ترسيخه وحزمه المصالح التي تقف وراءه، كما أننا لم نتوقف ولا لمرةٍ واحدة أمام الأبعاد المحلية والإقليمية وحتى الدولية التي تغذّيه وترعاه وتعمل على رعايته وحمايته واستخدامه.
دعونا لمرة واحدة، مرةً واحدة فقط نحاول أن نستكشف هذا "اللغز" العظيم الذي يفسر لنا أو يبرر ـ إذا شئتم ـ هذا الفشل المتواصل!!!
دعونا ندخل في سجال حتى ولو كان سفسطائياً حول هذا الانقسام وما أحدثه في حياتنا من تدمير وما ألحقه من أذى علَّ ذلك يساعدنا على تغيير مدخل معالجة المصالحة.
علينا أن نجيب إذا أردنا خوض غمار هذه التجربة السجالية على السؤال الافتراضي التالي:
هل كان الانقسام فعلاً إسرائيلياً مدبّراً أم لا؟ فإذا كان الجواب نعم فإن منطق المعالجة وآلية العمل لتجاوزه تختلف اختلافاً جوهرياً عن المعالجة وآلية العمل المطلوبة لتجاوزه في حال إن كان الجواب لا.
وإذا كان يجوز لي (وأعتقد أنه يجوز) أن أدلي بدلوي حول هذا السؤال فإنني أرى بكل صراحة ووضوح وبدون لبس أنه فعلاً كان عملاً مدبراً إسرائيلياً ونحن لم نكن سوى أدوات تعلم به أحياناً ولا تعلم به في الغالب.
وهنا أجد من الضروري القول إن رائحة التدبير الإسرائيلية تكاد تزكم الأنوف بالرجوع إلى "مرافعة" شارون حول الانسحاب من غزة وبالرجوع إلى ما قاله شمعون بيريس نفسه حول الانقسام حين أكد أهم الأحداث التي مرّت بها إسرائيل على مدى ما يزيد على ستين عاماً من عمرها هي: قيام دولة إسرائيل، والانتصار في حرب الأيام الستة، والانقسام في قطاع غزة.
وهناك عشرات الشواهد الميدانية التي تشي بالدور الإسرائيلي بدءاً من "إدخال" الأسلحة إلى ومروراً "بتصفية" قيادات معينة من الطرفين ووصولاً إلى انتظار النتائج "المرجوّة" دون أي درجة من درجات التدخل مع العلم أن المنطق يفترض مثل هذا التدخل.
وفي الإجابة على سؤال: هل كانت القيادات المحلية على علم بأن الأمر من تدبير إسرائيلي غير مباشر أم لا، دعونا نصارحكم باعتقاد خاص وهو أن بعض الدول الإقليمية كانت على معرفة مسبقة بالانقلاب وأنها مهدت الطريق مع الإسرائيليين له وليست هي بعيدة، الأيام هي التي ستكشف لنا هذه الأمور بكل وضوح.
بطبيعة الحال كانت إسرائيل تهدف إلى التخلص من العبء الديمغرافي للقطاع وكان يهمها أن "تسوّق" القطاع بعد "الانسحاب" الإسرائيلي منه كحالة "إرهاب" ووكر للتطرف والوحشية والتخلف، وكان أكثر ما يهمها قطع الطريق على وحدة الشعب والأرض والقضية وهو ما تحاوله اليوم بكل السبل والوسائل وهو جوهر الاستهداف الإسرائيلي.
وفي البعد الإقليمي وجدت كل من سورية وإيران ضالّتها في الانقسام وشجعته بكل السبل والوسائل لاستخدامه في معركة البحث عن الدور الإقليمي لإيران والموقع السوري في إطار ذلك الدور.
كان الانقسام مستحيلاً بدون التدبير الإسرائيلي وبدون الدعم الإقليمي وتحول القطاع إلى منطقة محاصرة حتى قايض الأمن لإسرائيل بلقمة الخبز وبرميل النفط.
إن تحويل القطاع إلى بكائية سياسية على يد جماعات الإخوان لم يكن مصادفةً وإنما تمهيداً لدور الإخوان على المستوى الإقليمي، ولولا الثورة المصرية التي أطاحت بهم لتحول القطاع إلى إمارة رسمية للإخوان وإلى "دولة"، تتقاسم مع الإخوان "أعباء" إنهاء الصراع مع إسرائيل بهدنةٍ طويلة لتدمير كل مقومات المشروع الوطني.
إن الصراع في الجوهر ليس صراعاً بين فتح وحماس .. إنه ببساطة الصراع على بقاء المشروع الوطني من عدمه.
الانقسام ليس إلاّ تدبيراً إسرائيلياً بمساندة إقليمية وتنفيذ جناح الإخوان المسلمين في فلسطين "للتحكم" "بفلسطين" كورقة في إطار مشروع سيطرة الإخوان على المنطقة، ومن يعتقد غير ذلك فله الحق الكامل، ولكن ليس من حقّه أبداً أن لا يرى كل ما جرى وكأنه خلاف فقط على السلطة بالمعنى المباشر والضيق للكلمة.
أما الفصائل بما فيها حركة فتح فستتحمل مسؤولية كبيرة في هذا الانقسام لأنها كانت مترهلة وغير مؤهلة للدفاع عن المشروع الوطني رغم كل الإمكانيات التي كانت تستطيع امتلاكها لو امتلكت الأداة التنظيمية المتماسكة لذلك.
وفتح تتحمّل مسؤولية الترهل الداخلي لأن الفصائل الأخرى لم تكن مؤهلة للدفاع عن المشروع الوطني حتى ولو أرادت، كما أن بعض هذه الفصائل كان وما زال الصراع بالنسبة إليها هو مجرد صراع على السلطة بين فتح وحماس.
دون ذلك، أي دون أن نتصارح حول هذه المسائل فإن المصالحة لن تتم حتى ولو استقطعنا عشرات الفرص القادمة وحتى لو ظل الوقت الضائع ممتداً إلى سنوات طويلة قادمة.
المطلوب أن نعرف شيئاً واحداً تريده حركة حماس لأننا نعرف كل ما لا تريده الحركة.
نريد أن نعرف إذا كانت "حماس" مع الانتخابات ومتى؟
وهل هي مع حكومة توافق بدون انتخابات أم لا؟
وما هو الثمن المباشر والملموس الذي تطلبه للتخلّي عن السيطرة الكاملة على القطاع؟ بصراحة ووضوح وهذا هو المدخل المناسب.