زيارة الحبر الأعظم - حماده فراعنه
أنهى قداسة البابا ، الحبر الأعظم ، زيارة حج وتدين ، إلى فلسطين ، بعد أن بعث برسالة محبة وسلام ، من مهد الديانات ، وحاضرتها ، ومنبع الإيمان للمسلمين وللمسيحيين ولليهود ، المؤمنين التقاة لوجه الله ، في أن تكون فلسطين وعاصمتها القدس أرض المقدسات ، وحاضنة كنيسة القيامة والمسجد الأقصى ، وتراث الإنسانية ، من أجل الخير والعدل والمساواة والتكافؤ والندية لكل بني بشر ، وأن تكون حرة سيدة نفسها ، وشعبها صاحب سيادة على أرضه ووطنه مثل كل الشعوب .
أنهى قداسته ، زيارة عمل إلى فلسطين ، تاركاً بصمات عميقة في نفوس المسلمين كما المسيحيين ، ولا شك أيضاً أنه ترك بصماته لدى بعض اليهود الذين ينظرون للأخر بإحترام ، وندية وشراكة ، ذلك أن ما قاله ، وما فعله ، ليدلل ، بعمق ودراية ، أنه يستهدف إنصاف الشعب العربي الفلسطيني لأكثر من سبب :
أولاً : لأنه شعب مظلوم ، مقسوم إلى قسمين ، قسم مقيم على أرض وطنه ويتعرض للقمع والبطش والتنكيل ومصادرة الحقوق ويفتقد للمساواة ، ويعيش الحرمان تحت الإحتلال الأجنبي وإجراءاته التعسفية العنصرية المعادية لحقوق الإنسان ، وتمنعه من إقامة دولته المستقلة وفق قرار الأمم المتحدة 181 ، والقسم الأخر ، المنفي المطرود المشرد خارج وطنه ، في مخيمات اللجوء ، وهو يعادل في حجمه وعدده ، عدد الفلسطينيين المقيمين داخل وطنهم ، سواء في مناطق 48 أو مناطق 67 ، وهم يتطلعون للعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم التي طردوا منها عام 1948 ، مثلما يتطلعون إلى إستعادتها وفق القرار 194 .
ثانياً : لأن جزءاً من الشعب الفلسطيني المظلوم ، هم من رعيته ، من رعية البابا ، ولذلك لا يستطيع السكوت ، أو قبول تعرضهم للإضطهاد ، وحرمانهم من حق تقرير المصير ، ومن حق عودتهم إلى بيوتهم التي طردوا منها ، وصادرتها الدولة العبرية وإستولت عليها في اللد ويافا وحيفا وعكا وصفد وبئر السبع .
ثالثاً : لأن هذا الشعب ، وجزء منه من رعيته ، كانت أرضه فلسطين ، ولا تزال ، حاضنة للكنائس الثلاثة المهد في بيت لحم ، والقيامة في القدس ، والبشارة في الناصرة ، ولا يعقل أن أصحابها الذين يعيشون فيها يعانون من التمييز العنصري ، في مناطق 48 ، ومن الإحتلال العكسري الأجنبي في مناطق 67 ، ولذلك لا يستطيع البقاء ، قداسة البابا ، مرغماً على السكوت وعلى القبول ، ولا يعترض على مثل هذه السياسة الإحتلالية الإستعمارية التوسعية على حساب رعيته المحرومون من الوصول إلى كنائسه الثلاثة المقدسة بحرية ، والمحرومون من ممارسة عبادتهم فيها ومن خلالها .
عزيمة قداسة البابا ، ودوره الأخلاقي ، وسلوكه المهذب ومكانته الرفيعة ، شكلت إضافة معنوية وأخلاقية لنضال الشعب العربي الفلسطيني ، وسنداً له ، وستؤرخ زيارته على أنها محطة ونقلة لما بعدها سيتم البناء عليها ، لأنها دفعت ، وستدفع العالم المسيحي ، لأن يحدد موقفه مع من : مع المشروع الإستعماري التوسعي الإحلالي العنصري الإسرائيلي ؟؟ أم مع المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني ؟؟ فالزيارة دللت على إنحياز قداسة البابا لقضية الشعب الفلسطيني ، ورعيته جزءاً منها ، وفي صلبها بل وفي طليعتها ، فهو ينحاز لرعيته بوضوح وجلاء ، وبشجاعة .
إنتقال البابا من الأردن إلى دولة فلسطين ، كما ذكر بيان الفاتيكان ، ورفضه الإنتقال من بيت لحم إلى القدس ، بل إلى مطار اللد ، ومن ثم إلى القدس ، وحضور الأمير غازي مستشار العاهل الأردني لإستقباله في ساحة المسجد الأقصى تعبير عن الولاية ، وصاحب الولاية ، وموقفه من اللاجئين الفلسطينيين ، واللقاء معهم ، ونزوله من السيارة خارج البروتوكول وخارج البرنامج لملامسة الجدار العنصري ، وتأدية الصلاة الأحتجاجية أمامه لإزالته ، جميعها مظاهر حسية ، تحمل مضامين صارخة لرجل دين مهذب ، رفيع في سلوكه ، ولكنه قوي شجاع في مضمونه .
زيارة بابا الفاتيكان إلى فلسطين ، شرف كبير للشعب العربي الفلسطيني ، ورافعة قوية لنضاله ، وإنحياز يعادل قوة قارة لعدالة حقوقه وتطلعاته لطرفي الشعب الفلسطيني ، الإستقلال وفق القرار 181 ، والعودة وفق القرار 194 .