عرس في العام 2014 - احمد جميل عزم
أ- حواجز الروح: في حلقات التّأمّل (ترجَمة اللفظة الإنجليزية "مديتيشن")، يبحث المشاركون عن السلام الداخلي. يقود مدربٌ المجموعة الجالسة على الأرض بأقدام "حافية"، وإضاءة خافتة، وموسيقى هادئة؛ يُحاول إرشادهم للخروج من أجسادهم، ولتُحلّق أرواحهم وعقولهم بحثاً عن ميناء سلام. الأمر أشبه باكتشاف عوالم أخرى، قريبة منّا لا نعيها. فمثلا، تحت سنتيمترات من الطين البُني الرطب، ديدانٌ لها ممالكها ونظامها؛ وتحت طبقة الضغط والأطماع اليومية في أنفسنا وأجسادنا، طبقات تنتظر اكتشافها. في نهاية جلسة التأمل، تَدبّ طاقة كبيرة في الجسد والأعصاب، ويتسرّب التوتر.
ب- حواجز الذاكرة: نستخدم عبارة "الزمن الجميل" دلالة الحنين للماضي.
ج- حواجز الاحتلال: تنظُر فتاةٌ في التاسعة عشرة في شاشة حاسوبها، إلى صورة من القدس القديمة؛ دكان أقرب للكهف، تتدلى فيه مسابح وتمائم تَستر السقف، وتقف بين الألوان سائحة من وراء البحار، بينما تسكن الفتاة على مسافةٍ يسيرة من الدكّان، لولا جدار الفَصل العُنصري. تَستحضر مُخيّلتها رائحة بخورٍ مفترض في دكّان الألوان.
أ- كان جمال أبو محسن ابن طوباس قد داوم يوماً واحداً في جامعة الخليل، عندما اعتقل قبل أكثر من ربع قرن.
خرج من المُعتقل قبل أشهر، ويومها اصطف الآلاف للسلام والتحية. يومها أيضا نادى جمال أخاه، وقال له: أريد شاياً.
لا يناقش الشقيق رغم صعوبة المهمة، ويمضي لإعداد عشرات أكواب الشاي.
وقبل وصول الشاي يُنادي جمال شقيقه ثانية، ويشير إلى شجرة البرتقال.
ولا يناقش الشقيق، ينادي أحد الفتيان ويخبره.
لا يشرب جمال الشاي لانشغاله بالمهنئين، ونَشرَبهُ نَحن. ويسأله شقيقه: ألا تَأكُل البرتقال؛ قطفناه لك؟ فيقول: لا، فقط أَردت أن أتنفسّ رائحته، أحياناً كان لدينا برتقال في الزنزانة، ولكني اشتقتُ لرائحته ولأوراقه وللشجرة.
بعد أشهر، تصل طوباس ولا تسأل أين العُرس؛ فالصوت يملأ المكان والإضاءة ساطعة.
استنفرت البلدية والمحافظة وأجهزة عديدة، ومواطنون، لإنجاح الحفل. اليوم يتزوج جمال.
بعد خروجه من المعتقل، قال: "كنتُ في القبر، خرجتُ من القبر، والأسرى حمّلوني أمانة في عنقي".
تعتلي أمهات الأسرى منصة العُرس، يحملن صور أبنائهن. يقدّمن التحية للعريس نيابة عن الأبناء، ويقفن صفّاً؛ وتشتعل الدنيا حُبّاً. ألم يغنِ أحمد قعبور: "أبوس الأرض تحت نعالكم، وأقول أفديكم، مُوجّها كلامه للفدائيين"؟!
تتصاعد الموسيقى والمُغَني بِملابِسه العسكرية يغني لزوجة تُغني لزوجها الفدائي في الجبال. وأنت تسمع من أي مدينة وبلدة جاءت عائلات الأسرى الحاضرين، تتشكل خريطة فلسطين بالورد وبِعطرهم.
أعلام "فتح" تملأ الفضاء، احتفالا بابنها جمال الذي قال: والله ما قاتلتُ إلا لفلسطين، لم أكن حينها أعرف "فتح" أو "حماس" أو غيرهما، كنتُ أعرف أبو عمّار وأبو جهاد.
وضعت الجبهة الشعبية أعلامها وصور أمينها العام الأسير، و"حماس" تعلن من مُكبّرات الصّوت تحيتها لعميد أسرى طوباس السابق، وجمال زيّنَ المكان بصور مروان البرغوثي.
مُغنون كثرا يتواترون، ومتطوعون، والشُبّان يَرقُصون بين نيرانٍ أَشعَلوها على الأرض، وتُدهشك كثرة الأغنيات عن الأسرى! كيف ينبت من "طلعة الآلام" فرح.
يقْصُر جيش الاحتلال تنقل جمال على محافظة طوباس فقط. وأُعطيَ خريطة تحدد أين يذهب، لا تستثني قرية عقّابا. أمّا خريطة رفيق عمره وأسره، مخلص صوافطة، ابن عقابا، فتمنع التنقل في طوباس، فلا يستطيع الوصول للعرس، فيتحدث عبر الهاتف مهنئاً صديقه.
الأعلام والروح والناس: كأنه تحت طبقة المدن الرئيسة، وبعيداً عن المكاتب والإعلام وصالات الأعراس "المُعلّبة"، نصل المدن الصغيرة وناسها، فنعيش أجواء أعراسٍ من زمن جميل، كأننا في خواتيم انتفاضة العام 1987. السّلام الداخلي عند جمال، وإصراره أن يحيا كما هو يشاء، وأن يجتاز الجدار إلى دكان الألوان، قاده لحيلة استثنائية بحجم روحه. يضحك شقيقه، شقيق الشاي والبرتقال ذاته، ويقول: جمال قرّر قراراً؛ غدا سيكون "ثاني أيّام العرس"، سنذهب بموكب كبير إلى عقّابا، وسيُزف جمال ثانية من بيت مخلص، إلى عروسه هنا. منعوه من الزفاف، سنأخذ الزفاف إلى كل مكان.
كأنّه رفع علامة النصر والكوفية وسط حلقة الدّبكة، وأعلن: "انتصرت"؛ "سنرقّص الساحة ونزوج الليلك" ونصنع زمناً يَتحدّث عنه الأبناء.