الهوامِش والمعوِّقين في التنظيم السياسي - بكر أبوبكر
إن "التفاعل المكتمل الدائرة" داخل جسد التنظيم (صُلب التنظيم السياسي) المتشكل من ثلاثية: الانسيابية والتبادلية وتوسيع المساحات، يغلق الدائرة أو يحقق مقدارا متوازنا بين مساهمات الأعضاء داخل التنظيم وبين المردود أو النتائج التي تعود بالفائدة والنفع علينا (كمجموعة) وعلى القضية وعلى الشخص ذاته.
يتفاعل الأعضاء في صلب (صُلب التنظيم) تفاعلا مكتمل الدائرة في سياق توازن مرغوب ، وهو على صعوبته إلا أن الاقتناع به، ثم تطبيقه يمهد لحياة تنظيمية مستقرة، غير متوترة أو مستفِزّة أو تناحرية .
الانسيابية والعوائق والتعطيل
في "الانسيابية" من السياق الثلاثي وهو ما سنركز عليه هنا، نقول أنه من المتوجب :
- عدم وضع عوائق للحوار وابداء الرأي، واثبات الذات في إطار التنافس لتحقيق المصلحة العامة ، وفي ذات الوقت عدم استخدام سيف النظام بشكل قهري، إذ يصبح التهديد ببند العقوبات في كل ما هب ودب عجزا في المسؤول، وسيفا على رقبة العضو الذي قد يرى نفسه مجبرا أما على الثورة والرفض، أو الانصياع دون قناعة، أوإحداث الشغب والفوضى والتخريب، وقد يتحول لمعوّق للعمل بوضوح.
- عدم تعطيل أدوات النظام وهي الاجتماع والتقرير والمؤتمر واللقاءات،والاتصالات مع القيادة ضمن الأطر، لما ذكرناه في أهمية الاجتماع الدوري ما ينسحب على الأدوات الأخرى.
وفي الانسيابية تسامح ولين وسهولة، وفي الحديث الشريف: «أَتَدْرُونَ عَلَى مَنْ حُرِّمَتِ النَّارُ؟»، قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال: «عَلَى الهَيِّنِ، اللِّيِّنِ، السَّهْلِ، القَرِيبِ».
- حُسن استخدام النظام (القانون)، وذلك بتحقيق التوازن بين ضرورة (الالتزام والانضباط) وبين (النقد والنقد الذاتي) وفي إطار معرفة مساحات السرية مقابل العلنية ، وفي التقابل الواضح في النظام الداخلي (الدستور) بين واجبات العضو وحقوقه ، وبين صلاحيات المسؤول بلا عسف.
الصراع وديغول و المعوِّقين
يقول الله تعالى في محكم التنزيل ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً) (الأحزاب-18) وفي التفسير للآية الكريمة يقول ابن كثير ما نصه: ((يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين- والعوق هو شدة المنع والصرف- لغيرهم من شهود الحرب (والجهاد بكل أنواعه هنا)، والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم { هلم إلينا} أي إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار وهم مع ذلك { لا يأتون البأس إلا قليلاً . أشحة عليكم} أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم، وقال السدي { أشحة عليكم}أي في الغنائم، {
فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت}أي من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي فإذا كان الأمن تكلموا كلاماً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، قال ابن عباس: { سلقوكم} أي استقبلوكم، وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق، وهم مع ذلك { أشحة على الخير} أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجُبن والكذب وقلة الخير.
فهم كما قال في أمثالهم الشاعر: أفي السلم أعيار جفاء وغلظة ** وفي الحرب أمثال النساء العوارك؟ (الأعيار: جمع عير وهو الحمار ) أي في حال المسالمة كأنهم الحُمُر، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض، ولهذا قال تعالى: { أولئك لم يؤمنوا فأحبط اللّه أعمالهم وكان ذلك على اللّه يسيرا} أي سهلاً هيناً عنده.))
ويقول د.محمد المجالي عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية تعليقا على الآية الكريمة عن المعوقين (عجيب أمر القرآن وهو يتحدث بصراحة عن فئة من الناس لا همّ لها إلا إعاقة الخير، بأية وسيلة متاحة، ولو بالكلمة؛ لا يعجبها الخير، وانتشاره، ولا المجتمع النظيف الآمن، ولا حتى الخيرية لها، لأن فكرها مشوّش وبوصلتها تائهة ومعاييرها منقلبة، جمعت الضلال والظلام معاً، فماذا نتوقع من أمثال هؤلاء إلا الوقوف عثرة في طريق الحق؟ والأعجب مما سبق، أن يظن الإنسانُ نفسه أنه على حق، في مبدئه ومنهجه، ويسارع إلى تخطئة الآخرين ونقدهم النقد اللاذع، وهو يعتقد أنه متبع رأياً سديداً).
ونحن نقول إن كان المعوِّقين يفترضون بأنفسهم أحيانا أنهم على حق كما يعتقد د.محمد المجالي، فإن هناك فئة ضالة مُضِلّة فاسدة مُفسِدة، هي في الأصل ليست من صلب "التنظيم"، تعلم أنها مضلٍّلة (بكسر اللام)، وذات أهواء، ولكنها تتمادى غَيَّا وتتمادى في الخطايا وتتمادى فسادا خفية أو علنا ، فقط تحقيقا لمصالحها الذاتية أو لمُشغّليها، ولو كان الثمن هو أن يدوسوا الآخرين جميعا أمامهم، إنهم معوّقين (بكسر الواو) وهم انتهازيين وهم في نفس الوقت متسلقين استطاعوا أن يركبوا رأس الهرم الاجتماعي أو السياسي أوالاقتصادي أو التنظيمي وتربعوا على عرش النظام قاصدين هدمه أو استبداله أو إحلال من يشابهونهم مكانهم وهم في المجتمع الأخطر والأكثر صعوبة في ذات الوقت أن تصل لهم وتكشفهم، إنهم "الهوامش" المعوقين للحق، الذين سادوا.
الهوامش والطفيلية
إن التفاعل وفي شكله الآخر (الصراع) قد يبقى مقبولا ما دام في نطاق البيت الواحد ولهدف جامع ، ويصبح ذو طابع تخريبي ممجوج عندما يخرج من بوابة المنزل الرحب – هذا إن كان رحبا فعلا – وهنا يظهر من نسميهم "الهوامش": وهم الطبقة الطفيلية أو الانتهازية أو المتسلقة التي لا تتمتع لا بالوعي ولاالحس ولا بالثقافة ولابالقيم ولا بالتجربة التنظيمية ولا بالفكر والأهداف التنظيمية، لتستغل قربها مجرد قربها– لغفلة من الزمن– مع القيادة، وتحاول أن تفرض شروطها وأفكارها المنحرفة.
أن الهوامش في جسد التنظيم مجموعة من التجار المتربّحين من تجارة السلطة الحاكمة داخل البلد أو التنظيم المستأثِر أو المؤثر، وهي الجماعة التي تماهت نظريا مع أفكار الحركة (أو التنظيم أي كان)، أوفي الحقيقة مع توجهات القيادة -بغض النظر عن صحتها أو فسادها- دون سند من تاريخ أو قيم أو فكر إلا تاريخ وقيم وفكر الوصولية بما تعنيه من ذاتية غالبة ، ومن مصلحة شخصية طاغية قد تصل لحد الاغتيال السياسي أو حتى الجسدي للمعارضين أو المعيقين للهامشي لأن يصعد في سلم رغباته.
إن الهوامش (وهم أصلا على هامش الفعل والتجربة والفكرة كما هوامش الصفحة لا متنها) في جسد التنظيم الثوري يتكاثرون كالفطريات ، تماما كما الفراشات على الضوء أوبالأحرى كالذباب على المزابل، إذ يستطيعون إن يعملوا في ظروف قاسية، لأن أهدافهم الانتهازية واضحة المعالم وعجلة مصالحهم تدور، و منطقة استهدافهم هي المسؤول (القائد/الزعيم)، ومبررها مصلحيّ بحت، وان بثوب وطني هو قطعا زائف.
شكّ الجنرالات حول الرئيس ديغول بأحد الوزراء بأنه يتعامل مع جهة أجنبية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يضبطوه متلبسا، أو أن يجدوا عليه دليل إدانة واحدة ، وظلت شكوكهم تتزايد من تصرفاته وسلوكه إلى أن جاء اليوم الذي اضطروا فيه لعرض الأمر على الرئيس، فاستدعاه واستغل محرر فرنسا من النازية "شارل ديغول" جاذبيته (كارزما الشخصية) فأطال انتظار الوزير تم أدخله وبعد فترة صمت مرعبة وهو يدير الظهر له، واجهه مباغتا بالقول: منذ متى وأنت تتعامل مع العدو ؟ فقال الوزير الذي أخذته المفاجأة: منذ سنوات .
وهنا قال ديغول -بعد أن اعترف الرجل من هول الصدمة- لكن مخابراتنا لم تستطيع أن تجد عليك دليلا واحدا ؟ ماذا كنت تفعل؟ وكيف كانوا يتصلون بك؟ قال : لم يكونوا يتصلون بي ولا أتصل بهم، وإنما كل ما طُلب مني عندما جُنّدت هو أن أتخير أسوأ الشخصيات لأضعها في قيادة اللجان أو المؤسسات المختلفة.
مثل هؤلاء من "الهوامش" على هامشيتهم - وتموضعهم الحقيقي على هامش صُلب التنظيم- من حيث الفكر أو القيم أو التجربة التنظيمية يملكون براعة التسلق والتزلف والتقرب من المسؤول فلا يضيرهم الإساءة المقصودة لخيار الناس ولا يضيرهم أن يسقط التنظيم ويندحر، كما لا يهمهم أن تتناحر الناس وتشتبك، بل هم يتحمسون لذلك أن لم يكونوا المحرضين والمحفزين أصلا على التدمير.
في الثورة الفلسطينية ظهرت في فترة معينة عبارة (الاستزلام-من زلمة أي رجل) أي الارتباط الفردي بقائد يسبح بحمده دون الله ، أو دون النظام ، أو دون الحركة، وظهرت مصطلحات "الانتهازيون والمتسلقون والانبطاحيون" في إطار الخلافات الفكرية أو السياسية – وان كان كثير منها قد تم تعريفه بشكل تعسفي إلا أنه في البعض منها كان صحيحا - وما ندعوه اليوم باسم الهوامش هم الأخطر، فالأوائل من الانتهازيين كان لهم تاريخ في الثورة أو إيمان جزئي بالفكرة، أما الهوامش فلا إيمان ولا عمل إلا ما يحقق رغبة الذات أومصلحة العدو عدا عن افتقادهم الكلي للقيم والأخلاق ناهيك عن فقدان التجربة التنظيمية-الجماهيرية.
إن صلب التنظيم يشتمل على العقل والفؤاد، و يشتمل على اللب والقلب، كما يشتمل على الأطراف فإن كان العقل يتوزع على الجميع بشكل شمولي، فإن القلب بمعنى الرحابة والمحبة وتحقيق التفاعل المكتمل الدائرة مطلوب من الرئيس أو القائد أو المسؤول، دون إهمال لوجود الهوامش والتعامل معهم بقوّة، ولكن بنفس الوقت دون تضخيم لهم على حساب صُلب التنظيم.