خطابان ومأزقان- عدلي صادق
هذه المرة، سيكون للحرب الإجرامية الإسرائيلية على غزة، تأثيرها العميق على مسار الرأي العام الفلسطيني منذ الآن. فعندما جرى خطف المستوطنين الثلاثة، تداعت التطورات لأن المحتلين واجهوا الموقف بحماقة. ولما عثر على المختطفين مقتولين، انفلت فريق من بيئتهم، يحاول اصطياد أي فتى فلسطيني لكي يضخه بالبنزين ويحرقه، علما بأن لا علاقة لأي طرف فصائلي أو سياسي أو اجتماعي فلسطيني بالأمر الذي بدا حادثا فرديا. لكن نتنياهو شرق وغرب هو وحكومته، مرة يقولون إن المختطفين جرى تهريبهم الى غزة، ومرة يتهم "حماس" اعتباطا، فقد رأى في الحادثة أعطية له ولحكومته، لكي يصرف نظر العالم عن قبح وظلامية سياساته التي يفترض أنها هي التي تلد العنف المضاد لعنفها ولممارساتها. غير أن المعتوهين الأشرار، الذين أحرقوا الفتى أبو خضير، أداروا الدفة عليه من جديد، علما بأن القتلة يشبهونه بل إنه يزيد هو وحكومته عنهم جنونا وتعطشا للدماء!
اختلط الحدث بالحدث، وبدأت الجريمة المتدحرجة في غزة، ليصبح واضحا بالملموس، أن الحرب ليست إلا تعميما لجريمة احراق الفتى، وقوامها إحراق الناس في غزة، وهم أبرياء براءة الفتى الذي أحرق في القدس!
أما السلطة، فإن مخزون مفرداتها، بحكم واقع وجودها الموضوعي وشروطه، لن ينتج بالطبع نصوصا ولغة تلبي الحاجة السيكولوجية للرأي العام الفلسطيني المحزون والغاضب. عندئذٍ ينشأ مأزق السلطة، على هذا الصعيد، وهي أصلا، ومنذ سنوات، هدف لكل تدابير الاحتلال، لإضعافها أدبيا أمام شعبها، وإحباطها وإفقادها جدواها على كل صعيد. لقد تحدث خبراء الرأي العام، عن مراحل تشكل وجدان الناس ورأيها. ويمكن أن ننتقي منهم الإيرلندي الشمالي جيمس برايس Bryce الذي رسم المقاربة الشبيهة بأحوالنا، حيثما يقوم خطابان، واحد أقصر من طول مسدساتنا الشرطية، والثاني أطول بكثير من سيوفنا حتى وإن توافرت لنا خطوط إمداد. وفي حال الغضب المبرر، على مستوى الجماعات البشرية، لا يرغب أحد، في سماع الخطاب التحليلي، لا سيما أن الخطابين، الأول والثاني، غير معنيين بتحليل شيء أو بوضع نقطة على حرف، لكي يكون الكلام منطقيا، في مقاربتي السياسة والمقاومة، بصيغتيهما المتداولة.
يقول "برايس" إن الأفكار والمواقف، تنمو وهي أشبه بنمو البذور. كل بذرة تتطلب تربتها الملائمة. ما يسقط من البذور على أرض صلبة لن ينمو، أما سقوطها على أرض مهيأة فإنه ينميها. والفكرة هنا، أننا بصدد عدو لا يصلح لشيء سوى للعدوان على كل صعيد. المنطق الطبيعي يجيز أن يقاومه المعتدى عليهم، وهذه مقاومة لها جذورها وأسبابها وفروعها. فمن لا يقاوم، أو حتى من يعارض الفكرة، ينزوي خطابه ويضمحل. تتناوشه همسات الناس وأحاديثهم العابرة. فالجماعات الإنسانية المستباحة في مصائرها، ليست معنية بالمصاعب الموضوعية للقتال. على صعيد الخطاب الأول، أو على الطرف الأول، من المعادلة الفلسطينية، ثمة قيود تتبدى ليس على الفعل وحسب، وإنما على القول مفتوح المدى أيضا. ومن المفارقات أن هذا الخطاب الأول، يتأرجح بين نقطة الذروة المتاحة للغته، وينزل أحيانا الى ما دون حدها الأدنى ويجرح الوجدان الشعبي متوخيا سلامة العواقب. وفي الطرف الثاني، نسمع خطابا مفتوح المدى، يستعيض به عن أخطاء الحكم في غزة وعن أخطاء حسابات الحرب وحسابات العلاقة مع المجتمع. لذا تراه في رسالة خطابه الى الناس، يستعين ليس بفكرة المقاومة وحسب، وإنما بفكرة المقاومة المنتصرة حتما مهما كانت النتائج، فينحو الى لغة تعبوية شديدة المبالغة، والى التسميات القرآنية الماحقة كالفرقان وسجيل، فيما الاختلال العسكري في موازين القوة قائم وراسخ، ثم ينكشف الغبار والركام في كل مرة، عن بؤس أشد في حياة الناس وعن كل ما يدل على الخسارة الفادحة في كل موضع، لكن الغبار ينقشع واللغة تمكث!
هنا، تكون النتيجة مثلما أرادها المجرمون: خطاب تجعله جرائم المحتلين، نهبا لهجاء الألسن، التي باتت تتفشى عبر شبكة العنكبوت. أما الثاني، فقد جعلته الحرب الإجرامية، قائما على توسيع رقعة المقابر وعلى الازدحام في المشافي وعلى اعتصار القلوب ألما على الشهداء، وقائما على حسرة الناس على بيوتها المدمرة.
لقد أراد المحتلون العنصريون المتطرفون اليوم، الإجهاز على فلسطين، سياسة ومقاومة، واسكات خطابيها الاثنين في آن.
adlishaban@hotmail.com