تغريدة البجعة- عدلي صادق
أي صوت يقوى على التغريد، فيما دوي القصف يطغى في الأرجاء؟! وأية صباحات فلسطينية هذه، بل أية صباحات سورية، في مقدورها أن تضاهي صباحات ذوي الأحزان العادية، التي لم تدخل طور الفجيعة؟!
حط بي الرحال في القاهرة، لظرف طارئ. وليس من مكان في هذه الدنيا، أشد من القاهرة تكثيفاً لكل شيء. للمعاني وأضدادها. خياراتك، هنا، تتأرجح بين النقيض والنقيض، وكذا انطباعاتك. تأخذك حركة الأحداث، من التأمل الصعب، الى الشرود والخواطر الجارحة. وفي الحر القائظ، يتعين على الصائم أن يلوذ الى مكان يتابع منه وقائع العدوان على غزة، حيثما أقام المجرمون المجردون من الآدمية، ياناصيب القتل الفظيع الذي يعجز الوصف عن وصفه إن قلنا إنه دامٍ وحسب!
على الشاشات نفسها، يتناكب عنصر التأسي وعنصر البغضاء والتشفي. في الدينا العربية الراهنة، سكنت المدن وسكن الاجتماعي السياسي هوس جنون، يغالب رجاحة العقل. كلٌ يحمل همومه الخاصة. البائعون يكادون الكساد. بعض اليافطات المتجاورة نفسها، تحتقر المتنج وتحتقر المسهلك. محال تقول إن بضاعتها مستوردة، فيما يكمن في معنى الإعلان، تنميط وضيع للمنتج المحلي. البعض الآخر يقول إن بضاعته للتصدير، بمعنى أن المعروض - استثاءً - من المنتج المحلي، لامع وذو لمسة مستوى، وهو غير ذلك الذي يُعرض للناس!
رواية "تغريدة البجعة" للروائي الصاعد مكاوي سعيد، قدمت وصفاً لوسط القاهرة بعد "ثورة يناير". وبسبب ما اشتمل عليه هذا العمل الأدبي البديع، من لقطات ذكية ومفارقات؛ نافس بقوة للفوز بجائزة "البوكر" العربية للرواية. فالانتقال من النقيض الى النقيض، ورصد التحولات التي مر بها المجتمع، على أصعدة المواقف والسلوك والتمنيات، لم يقتصر على مجاميع الناس، وإنما وقع داخل الإنسان الفرد نفسه، وبات لكل واحد، هواجسه المتأرجحة، بين الواقع والتمني. مثل هذه الحال، لا يُرجى منها شيء للآخرين. حَرَج الروح واغترابها، يحجبان رؤية الموضع الذي يقف فيه الإنسان وتقف فيه الأمم. هناك إشكالية رؤية، ليس للمعاني والمواقف البعيدة والكبيرة وحسب؛ وإنما للمواقف القريبة والصغيرة أيضاً!
في "تغريدة البجعة" يتشبث الكاتب، في هذه اللُّجة، بالأمل في الوطن المفتقد. الأوطان كلها تكاد تكون مفتقدة، وإن بصور وأشكال مختلفة. يُفتقدُ الحب، فتفتش عنه الأرواح الهائمة، وتتوازى تواريخ الأوطان، مع تواريخ المُهج والقلوب. يطوف الكاتب على البلدان العربية، فينقل الهواجس من داخل بانوراما الفاجعة الشاملة. المرأة القتيلة ــ الشهيدة في غزة، هي ذاتها المرأة السجينة في "أبو غريب" في العراق وهي نفسها، جوليا البريئة التي سحقت عظامها الحرب في جنوب السودان، و"عشتار" التي وُجدت أشلاؤها مختصرة، تحت الركام في حمص. على الرغم من ذلك، ليس أكثر هولاً من حال المرأة تحت القصف في غزة!
البائعون الذين يعرضون الكلام، ويحتقرون المنتج والمستهلك، مستريحون جداً. تغطيهم الفضائيات التي تذم كل واحدة منها خصمها المفترض، وإن نقص عليهم شىء؛ تتكفل الفتاوى المذهبية باستكمال التغطية!
في هذا الخضم، وتحت القصف، تتواضع الأمنيات. لعل النصر في غزة، هو أن تنكفىء الآلة العسكرية الإسرائيلية ــ الأميركية، وأن تعود بخزيها وعارها، على أن نحظى ببعض مواساة، وبعض تعويض، وبعض انفتاح لأقفال المعابر. إن نقطة الانطلاق، لمجاهدة الحال الذي نحن فيه، تبدأ من الذات المضطرة لأن تصالح نفسها، ولأن تتأمل مواضع أقدامها، ولأن تعيد بناء الأواصر المُضيّعة. ذلك بعد أن يبادر الحاكمون المستريحون الى استجماع بعض عقولهم، لكي يتمثلوا شيئاً من روح هذه الأمة، فيوقفوا العدوان بثقل الأوطان وبتغيير طفيف على الأدوار التي انكشف بؤسها!
adlishaban@hotmail.com