«على هامش غزة..» - عيسى عبد الحفيظ
كان لانفجار عواطف السيد كريس جانس المتحدث الرسمي باسم وكالة الأونروا في القدس واجهاشه بالبكاء على شاشة التلفزيون والكلمات الرائعة المعبرة عن الاصرار الفلسطيني على الثبات والصمود لتلك السيدة الفلسطينية على شاشة الجزيرة، الأثر الأكبر في نقل مأساة شعبنا في غزة بعد هذا القصف التدميري المجنون، والذي إن دل على شيء فهو الافلاس الاسرائيلي الكامل. ما حدث ويحدث في غزة كفيل بزحزحة الجبال، وانهمار دموع الجبابرة وارتعاش الأموات في قبورهم، وهز قصبة من لا ضمير لهم.
بيوت تحولت الى أثر بعد عين، وأحياء زالت من على وجه الأرض، ومئات الآلاف لا يجدون مكانا لممارسة طقوس الحياة اليومية بعد ان تحولت بيوتهم الى كومة من الحجارة المهشمة ففقدوا الملاذ الطبيعي للبشر ليهيموا على وجوههم في مدارس الأونروا أو في أي مكان، لكن الاصرار ما زال سيد الموقف، والصمود عنوان المرحلة، والمقاومة ثابت لا يتغير مهما بلغت التضحيات، ومهما غلا الثمن.
السيد كريس وهو الأجنبي الانسان لم يتمالك نفسه من الاجهاش بالبكاء، كيف لا وهو يرى بقايا من أجساد الأطفال المتفحمة، واشلاء آدمية ما زالت حتى حينه تحت الانقاض. تلك الانقاض التي صرخت تلك السيدة على الشاشة وما زالت تصرخ وتأمل وتصر على بناء بيتها الذي هجرته مكرهة عام النكبة في قريتها الفلسطينية البسيطة، والتي حدثها عنها والداها فرسمت تضاريسها في المخيلة من حقول وبيادر وكروم، وها هي اليوم تفقد بيتها في غزة.
لا بأس أيتها الفلسطينية الحرة، فلنعد الى التاريخ، نعم الى التاريخ الذي ما زال يتوهج في ذاكرتنا جميعا، في كل ليلة نضع فيها رؤوسنا على الوسادة، تعود تلك الصورة التي هي من بنات أفكار المخيلة لكنها تعكس الحقيقة الأزلية (فلسطين لنا) كانت النظرية الصهيونية الهزلية والتي اثبتت الأيام بطلانها والقائلة بأن الكبار يموتون والصغار ينسون ليست أكثر من تمنيات حاولت غولدا مائير ومن هم في جيلها اثباتها مراهنة على الايام والهزائم المتكررة للخصم. فاذا بالايام ترسخ الانتماء اكثر من اجيال لم تر الوطن لكنها رسمته ونقشته في الذاكرة المتوهجة، وفي سويداء القلوب.
تلك السيدة التي نشاهدها على الشاشة كل يوم ربما عدة مرات هي الأسطورة وهي طائر العنقاء الذي ينهض من تحت الرماد كل مرة.
قيل العنقاء والغول والخل الوفي. تلك هي عنقاؤنا فأين الخل الوفي؟
تعود الذاكرة مرغمة الى مجزرة صبرا وشاتيلا وما زلنا نستذكر تلك المرأة الفلسطينية وهي تصرخ في شوارع شاتيلا «وين العرب وين؟» ثم جاءت المناضلة جوليا بطرس لتصرخ أيضا نفس الصرخة ولكن، لا حياة..
وعودة الى السيد كريس الذي ترجم الشعور الانساني بكل معانيه عندما لم يستطع تمالك نفسه لهول الفاجعة فانفجر بالبكاء. كان بكاء كريس يمثل بكاء الانسانية جمعاء من مشرق الأرض الى مغربها. فالانسانية تتوحد عندما يرتفع منسوب دماء الاطفال والنساء والشيوخ، وتهدم البيوت على ساكنيها دون سبب اللهم لتحطيم المعنويات. ولكن وكما قال الجنرال جياب فإنهم تلاميذ أغبياء لا يتعلمون من دروس التاريخ فهل استطاعت قاذفات B 52 أن تحطم الصمود في فيتنام، وهل استطاعت القنابل الحارقة التي شوهت اجساد الاطفال والنساء في حقول الارز ان تثبط من عزيمة الثوار، وهل استطاعت قوى الطغيان ان تسكت صوت ثوار الفاتح من نوفمبر في جبال الأوراس وجرجرة، وهل استطاعت قلعة المونكادا ان تحمي الدكتاتور باتيستا من ضربات ثوار كوبا؟
انني انحني امام هذا الصمود وهذه الارادة. انحني امام كريس لشعوره النبيل وعواطفه الانسانية التي لم يستطع كبحها امام هول الجريمة. انني انحني امام ذلك الشيخ الذي يتحدى العدو مطالبا اياه بزيادة القصف والهدم لكنه باق هناك. انني انحني امام تلك السيدة التي كانت تستعد للفطور بعد صيام يوم طويل تحت القصف وشح المياه وندرة الطعام، واذا بالغربان تنعق في سماء بيتها البسيط، فما كان منها الا ان رفعت درجة التحدي واصبح مطلبها العودة الى بيت عائلتها في فلسطين التاريخية مؤكدة انه لم يبق لنا الا انفسنا بعد الله، ولسان حالها يقول: لقد اسمعت لو ناديت حيا.. ولكن لله درك ايتها الفلسطينية الحرة التي تجوع ولكن لا تأكل بثدييها. لله درك يا كريس وانت تخرج من فلسطين بعد ان تركت فيها دموعك التي سالت على ثرى القدس لتنبت شقائق النعمان.