منازل الموت- عدلي صادق
حَقَّ للموهوبين من الشعراء والأدباء، أن يشحذوا أقلامهم بعد كارثة الدمار والفَقْد الموجع، التي عاشتها غزة في رمضان المنصرم، لا سيما وأن أية تهدئة، لن تحمل سوى ثقة وأمل زائفيْن.
لأشكال التعبير الفني الفلسطيني وجمالياتها؛ علاقة تاريخية وثقى، بإدراك فاجع للذات، يضطرم في ثناياه، القلق والشك العميق والاضطراب العام. ولتجدن مفردات هذا الإدارك، جاهزة عند المبدعين، يقابلون بها كل نائبة شبيهة بسابقاتها. فكلما أتيح لشاعر أو أديب إسماع الناس وصفاً للحظات الإنسان في خضم الحرب، فيما هو يتلقى الحمم المتفجرة بجسدة الطري؛ يتدفق بعبارات يحفظها عن ظهر قلب، لأنها ذَوْبَ روحه المحملّة بالأمل. فلا بد أن يُولدَ شيء من رحم العذاب، ولا بد لإرادة الحياة من انبثاق جديد، كلما أوقع الموت دورة جديدة في حقلنا الإنساني. هكذا كنا، بعد كل نائبة. فعندما حدث استلاب 1948 لبلادنا، اهتز عرش اللغة في سائر الإقليم. دفعت الكارثة والخيانة والغدر الاستعماري، أهل القريض، الى تفكيك القصيدة وإعادة تركيبها. غادرت حشمتها، ولم تعد تلتزم بشكلها "الرسمي" منذ الجاهلية، أي إنها خلعت من ضوابط ظهورها من شطرين تربطهما قافيةٌ واحدة. كان لابد، على المستوى الدلالي، من إطلاق العنان للوجدان، ولتلقائية التعبير عن المشاعر، على أن يعلو شأن الالتزام السياسي حيال القضايا الوطنية، والالتزام الاجتماعي حيال قضية الحياة في تجددها وزخمها.
مراسلو وسائل الإعلام، يجدون أنفسهم أمام وقائع ولقطات تستعصي على اللغة الخبرية وحدها. فلا مناص من نقلها عبر لافتات مغمسّة بما تيسر من التعبير الأدبي الذي يساعد المتلقي على التأمل. ويُستكمل هذا النقل البليغ، لوقائع الحدث الفاجع، بأعمال كُتّاب القصة القصيرة والشعراء والفنانين. ما أحوجنا الى أمثال هؤلاء بعد كل الذي جرى ويجري في بلادنا. ألوف اللقطات التي ينبغي أن يسجلها الأدباء أو يصبّونها في شكل نثري منظور، تُعرض فيه أجزاء ومن ــ وعن ــ حدث ومكان، مع نبذة عن حياة شخص ما. فبعد كوراث الحرب العالمية الثانية ودمارها، كان للألمان أن اجتمعوا على النهوض بحركة أدبية، تلألأت أسماء نجومها في سماء دنيا مفتوحة للتأمل. قصاصون ومسرحيون وشعراء وفنانون، رسموا بالقلم وبالمشهد والريشة، مآسي الضحايا ومآثر الصامدين. كتب "بورشرت" مسرحيته الخالدة "خارج الى أمام الباب" (قبل القصف) وبعدها "الجنرال شيطاناً". أما "برتولت بريشت" فقد كتب "شجاعة أم" التي عدها النقاد أعظم مسرحية في القرن العشرين. وكتبت الألمانية اليهودية "نيللي زاكس" روايتها "في مساكن الموت" وحصلت على "نوبل" قبل أن تموت في العام 1970 حزينة تهذي وتكلم نفسها، في مصحة نفسية في استوكهولم، لأن أبناء دينها جعلوا منازل الفلسطينيين "مساكن موت" منتحيلن تمثيلها وهم ينتقلون من موضع الضحية الى دور النازي. ولم تعش "نيللي زاكس" لكي تشهد الزمن الذي تكاثرت فيه منازل الموت الفلسطينية، بفعل الأيدي التي استمرأت القتل الرقمي من الجو.
ليشحذ الموهوبون أقلامهم، وليُشهر الفناون أريشهم، وليكتبوا وليرسموا وليقرض الشعراء القصائد.
adlishaban@hotmail.com