حين يصير الزيتُ دمعاً!
ألف- عبد الباسط خلف:
يتباهى الحاج محمد يوسف "أبو أنور" بأنه عاش طفولته كلها بين أشجار الزيتون، ويقول: "أعرف كل شجرة في أرضي، وأتذكر من أين جلبتها ومتى زرعتها، وتحت كل واحدة من الأشجار الخضراء هناك العديد من الذكريات، وطاردت لصوصاً قدموا لأرضي، بدعوى التنقيب عن الآثار التاريخية والذهب، بعد أن سرقوا شجرة قال إنه غرسها في أرضه قبل نصف قرن".
يصف أبو أنور الزيتون بأنه أساس البيت، فبدونه لا تستطيع الأسر الفقيرة العيش، وهو لا يحتاج للكثير من الجهد مقارنة بالأشجار غير المعمرة كاللوزيات قصيرة العمر وكثيرة المرض. ونقل عشقه للأرض إلى أبنائه، إذ يعمل أربعة من أصل سبعة في الزراعة بعد أن أدخلوا إليه بعض التحديثات، ويوصي دوماً أحفاده السبعة والعشرين بالمثابرة وبزراعة الزيتون في حدائقهم المنزلية بدلاً من الورود أو "الكلام الفارغ"- كما يصفها.
وينتابه القلق من تراجع المطر، الذي يؤدي لإنهاك الشجر وبخاصة حديث الزراعة، فيعمد طوال قيظ الصيف لتوفير مصدر ري له بشكل دائم خوفاً من الجفاف، ويرى أن الإهمال وتفريط الأجيال بالزيتون والرعي الجائر من الرعاة إضافة لندرة المطر من أشد الأخطار التي تحدق بالشجرة المباركة والحنونة كما يسميها.
يعدد الحاج محمد مراحل جمع الزيتون، فيقول في تشرين أول يذهب الفلاحون إلى الأرض، ويجمعوا الثمار التي تساقطت مبكراًـ في عمليه اسمها "الجول"، بعدها يحضروا فراشاً من البلاستيك والخيش ليضعوا تحت الشجر أثناء القطاف، ثم يشرعوا في عملهم، فمنهم من يقطف المحصول بيده، ومنهم من يستخدم العصي، ثم تجمع الثمار في أكياس من الخيش وتترك لفترة قصيرة، لحين جمع المزيد من المحصول. يتابع والفرح يطوق وجهه: بعدها نذهب إلى المعصرة ونحضر الزيت والجفت.
ينهي: "تحتاج شجرة الزيتون للرعاية في مواسم مختلفة طوال العام، كالحرث وإزالة الأعشاب والأغصان التالفة وغير المتناسقة وأحياناً القضاء على بعض الآفات".
بينما تبدو التجاعيد العريضة في وجه أم محمد ، التي شارفت على اختتام العقد السابع، واضحة للعيان، لكنها تعود لصباها وهي تبحر في "أروقة" ذاكرتها التي تجمعها بشجرة الزيتون المباركة، فالعجوز التي تسكن (يعبد) قرب جنين، قريبا من الطريق الذي يؤول إلى عدة مستعمرات مقامة على أرضي البلدة الواقعة غربي جنين، لفت نظر من يقابلها، وتفاجئ من يستمع إلى حديثها العتيق – الجديد.
تبدأ بسرد ما سمعته في موسم زيتون العام 1989، وبالتحديد يوم لقي الحاخام اليهودي المتطرف مائير كاهانا، زعيم "حركة كاخ العنصرية " حتفه في الولايات المتحدة، وبعد أن أقدم مستوطنون على ممارسة شهوة القتل، التي كانت ضحيتها إحدى نساء بلدة (ترمسعيا) في محافظة رام الله، عندما كانت تتجه وزوجها إلى حقلهما، لاستهلال موسم القطاف، لكنها، وكما تصف أم محمد، بدلا من أن تجمع حبات الزيتون، تلقت رصاصات قاتله، في كرمها الذي أحبته، وأمام شريك عمرها.
لم تكن قصة " شهيدة الزيتون " في ترمسعيا الحكاية الوحيدة التي تختزنها ذاكرة أم محمد، فقد أعادت لنا ما كانت سمعته قبل أعوام من أحد أحفادها، وما شاهدته في وسائل الإعلام حين تذكرت الأخوين التوأم هلال وبلال أبو صلاح ( 19 عاما ) حينما سقطا في بلدتها بداية موسم الزيتون عام 2000، ولم تنس الشهيد فريد نصاصرة "28 عاما " من بلدة بيت فوريك المجاورة لنابلس، الذي قضى برصاص مستوطنين عندما كان يقطف زيتونه في تشرين أول من العام نفسه.
ولا تزال ذاكرتها الحية قادرة على استرداد ما حدث لنصاصرة إذ أطلق المحتلون سراح المستوطنين اللذين قتلاه بدم بارد بعد ليلة واحدة من الحبس.
تقول حفيدتها الجامعية حنان: "نتذكر حكاية الإدانة التي أصدرتها ما تسمى بالمحكمة العسكرية، على جنود جيشها الذين نكلوا بشبان من بلدة سالم المجاورة لـنابلس أوائل الانتفاضة الأولى، عندما أمرتهم بدفع " أغورات " ( الشيقل يعادل 10 أغورات) عقابا لتنكيلهما وكسر عظام فلسطينيين أمام عدسات التلفزة العالمية".
تستأنف أم محمد حديثها فتسرد فصول قمع الاحتلال، عندما صدر قبل عامين أمرا جائرا بحق أهالي بلدة (يعبد)، إذ طلب جيش الاحتلال من عدة مواطنين، قبل أيام قليلة من انطلاق موسم الزيتون، أن يقطعوا أشجارهم ويحولونها لفحم، لأنهم سيقتلعونها بدعوى تشكيلها غطاء للمقاومين الذين كانوا يعترضون المستوطنين على الطريق الذي تقع الأشجار بمحاذاته.
تضيف: "كيف لأحد أن يخرب بيته بيده؟"، وتتحسر على أصحاب الأشجار الذين كانوا ينتظرون جني محاصيلهم، في هذه الأيام العصيبة، لأنهم " أكرهوا " على تخريب بيوتهم بأيدهم. "وأخاف أن يصعد الاحتلال ومستوطنوه اعتداءاتهم ضدنا في هذا الموسم أيضا". وللزيتون الكثير من الإيجابية فهو موسم له رائحة خاصة، إذ يعمل الجميع يدا واحدة، فيتعهد الرجال بإسقاط المحاصيل عن الأشجار، وتتخصص النساء والأطفال في جمع الثمار التي تبتعد عن " الفراش " الخاص بالأشجار. وكل التوقعات تشير إلى أن موسم الزيتون لهذا العام سيشهد احتكاكات واعتداءات متزايدة من المستوطنين جاه المزارعين الفلسطينيين أثناء موسم الزيتون.
تقول أروى عبد الحكيم، الطالبة الجامعية التي تدرس الخدمة الاجتماعية: "هذه الشجرة هي الوحيدة التي يستفاد من كل جزء منها بدءا بجذورها، وإنهاء بأوراقها وتتجلى في موسم الزيتون ببلادنا قيم التعاون والتشارك بين أفراد الأسرة الواحدة، وعلى الرغم من العمل المضني إلا أن الأسرة تتعامل مع الموسم كالعرس"، وحتى "الجفت" وهو بقايا الثمار بعد عصرها، يستخدم لأغراض منزلية كالتدفئة شتاء، والأوراق و الأغصان لتجهيز الطابون العربي.
وتشير لغة الأرقام إلى أن مساحة حقول الزيتون المزروعة في فلسطين تقدر بنحو 828 ألف دونم في الضفة، و16 ألف دونم في غزة، وبمساحة إجمالية مقدارها 844 ألف دونم.
وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة فإن " أحشاء" محافظة جنين وحدها تحتفظ بنحو مليوني زيتونة، في وقت عزل جدار الفصل العنصري على نحو 65ألف دونم من أراضيها الزراعية.
ووفق إحصاءات رسمية، فإن جدار الفصل العنصري أدى في مرحلته الأولى لاقتلاع 83 ألف شجرة زيتون جلها من النوع الرومي المعمر والمزروع منذ آلاف السنين، ما يعني تراجعا ملموسا في حجم إنتاج فلسطين من الزيت الذي يصنفه المجلس العالمي لعدة أطياف، كالبكر الممتاز والجيد والعادي والمكرر وزيت متبقيات عصر الزيتون المكرر و الزيت النقي.
تردد أم يوسف، إحدى النسوة التي آتى الجدار على أحلامها وزيتوناتها، ما حفظته عن ظهر قلب منذ صغرها: "لو عرف الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا".
وتقول: وراء كل شجرة يقتلعها المحتلون حكايات لعائلات وأطفال ونساء وآمال ….، وتتمنى أن تشاهد الفلم الذي أخبرها عنه نجلها، والذي يحمل اسم " زيتونات " للمخرجة ليانا بدر.
تعود أروى للحديث عن مخاوف الفلسطينيات هذا الموسم، كما وثقتها، فبعد سلسلة الأطواق والحواجز الاحتلالية التي مزقت "جسد" الأراضي الفلسطينية، أخذت أشجار الزيتون المحاذية للطرق البديلة والوعرة تكسي بلون أبيض، بفعل الغبار المنبعث من جنبات الدروب الكثيرة، والذي "سيزيد الطين بلة" تبعا لوصف أم علي وعائشة وأماني، وثلاثتهن مزارعات يعملن في مواسم جني الثمر، وسيصعب مهمتهن، ولا يملكن الخيار بتأجيل استهلال الموسم لما بعد الشتاء حتى يعود الزيتون لعهده الأخضر، وهو يشكل "موسما ماسيا" في إشارة للمصطلح الذي يطلقه الفلاحون على موسم الزيتون الوافر، بعكس "الشلتوني".
تستدل أروى الستار على حديثها بالقول: "كثيرات هن ضحايا لقمة العيش، فلا ازال أذكر جيدا فاطمة أبو جيش، ابنه بلدة بيت دجن، بمحافظة نابلس، التي سقطت في يوم الشهيد الفلسطيني (7-1-2001) ودونت في مذكرتها: إذا سقطت شهيدة، فأطلقوا علي لقب "شهيدة لقمة العيش من أجل الحرية"، والفتاة غادة العيسة "19 سنة" من قرية صانور جنوب جنين، التي طالها رصاص الموت وهي تقطف ثمار الزيتون خلال انتفاضة الأقصى".
وقد غير الاحتلال من سياسته فبدلا من أن يسمح للمستوطنين بسرقة ثمار الزيتون أو الاعتداء على الفلاحين، شرع بسرقة آلاف الدونمات بدعوى إنشاء سياج "قتل " فقط 45% من مساحة قلقيلية لوحدها، ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن إسرائيل صادرت 165 ألف دونم في 76 تجمعا سكنيا، وهجرت 2323 مواطنا، بفعل إقامتها لجدار الفصل العنصري.