لم تعد تسع غزة للألم والوجع - رمزي النجار
لم تعد مقومات الحياة في غزة كما كانت قبل سته سنوات عشنا خلالها ثلاث حروب تدميرية، فمنذ اللحظة الأولى لبداية الحرب الأخيرة استشعرنا أنها حرب تدميرية عدوانية تستهدف البشر والحجر والشجر والطير والحيوان وكل ما هو على الأرض؛ فالاحتلال الاسرائيلي استخدم اسلوب الأرض المحروقة بإبادة أحياء فلسطينية في خزاعة والزنة والشجاعية على بكرة أبيها، ولما كانت مقومات الحياة في غزة تحت دائرة الاستهداف الإسرائيلي، فلم تسلم البيوت الأمنه والمنتزهات والمساجد والمدارس والمستشفيات ومحطات الكهرباء وضخ المياه من غدر الآلة العسكرية الهائلة التي يمتلكها طرف محتل يغرق في بحور من دماء الأبرياء، ولعل الحقيقة تفرض نفسها في الميدان، اسرائيل في هذه الحرب أعدمت الانسانية وسلبت حياة المواطنين وحاصرتهم بنيرانها الحاقدة وأراقت دم الانسانية بسبب طبيعة تفكيرها ونظرتها الى الحياة والكون, هم لا يرون سوى انفسهم ومصالح مواطنيها, بغض النظر عن عذاب الفلسطينيين والالام التي يكابدونها، لا تلتفت الى التفاصيل الدقيقة للحرب وانعكاساتها الكارثية على المجتمع نتيجة غرورها وجبروتها، ونظرت إلى الإنسان الفلسطيني في المواجهة اثناء الحرب نظرة غريبة وكأن الفلسطيني تحول الى رصاصة او قنبلة او صاروخ، وليس انسانا سويا له مشاعر واحاسيس، تشوه صورته حتى ليبدو وكانه الوحش المفترس الذي لا يمكن الخلاص منه الا بقتله والقضاء عليه، هذه هي فلسفة الطغاة ومثيري الحروب، فلسفة تثير مشاعر الحقد والكراهية وقتل المشاعر الانسانية، فلسفة تجعل من الارض جحيم البشر.
فالمشهد بصورته الحقيقية على أرض الواقع في غزة كان دليلا قاطعا على جبروت الاحتلال الاسرائيلي وقسوته في خوض غمار الحرب وسلب الانسان الفلسطيني انسانيته تماما، فلم تعد تسمع في غزة سوى صوت الصواريخ والانفجارات التي تتعالى في سماءها وتحاصرك من كل جانب، هنا كل شيء يحصد أرواح الناس؛ فالقذائف وشظاياها لم تمنحك الفرصة لتفكر أين تذهب في جنح الظلام الدامس، حيث يتجمد لسانك للحظة في حين يخفق قلبك بسرعة إن لم يتوقف؛ حتى بات المواطن بين خيارين لا ثالث لهما إما أن يترك بيته ويخليه باختياره خوفا على حياة أطفاله الأبرياء قبل أن تقتحم صواريخ الطائرات وقذائف الدبابات عليه نوافذ المنزل، أو تدمره الطائرات عليه وهو نائم وتسلبه دفء أغطيه أطفاله التي ستتلطخ بالدماء، لأن المواطن مطلوب منه أن يراقب عبر نافذته الأجواء في السماء بحثا عن طائرة هنا أو هناك بين الغيوم تتربص به غدرا كي تسلبه بيته الجميل ودفء حياته، وتتركه وحيد التفكير أين سيذهب بأطفاله في ظل هذه الأجواء التي تشم بها رائحة الموت في كل جنبات الطرق، لقد عاش المواطن في المناطق الشرقية لحدود قطاع غزة أياما قاسية منذ بداية العدوان وخاصة عند بدء الحرب البرية، فالنزوح والتشرد وإيجاد المأوى الأمن له ولأولاده كان جل تفكيره ليس هربا أو جبنا وإنما حمايه لأطفاله الصغار الذين يتطلعون للحياة لينعموا بها كما أطفال العالم، ليخرج المواطن مع الألاف من الناس مشردا في الشوارع بحثا عن مأوى إلى حين أن يفرجها الله ويلهمك ماذا تفعل، وتنظر حولك لترى أحوال الناس ومشكلاتهم تتعدد وظروفهم تشترك فهي نفس الظروف تتشكل بألوان مختلفة، هناك من يبكي لأنه فقد حلمه وهناك من تنهمر من عينيها الدموع حزناً على فقد عزيز وهناك أيضاً من يكاد يصرع من خسارة في المال, وقصص وحكايات الناس لا تنتهي في مشهد أشبه بيوم قيام الساعة، ولكن ما يحزنك في صورة هذا المشهد صور الأطفال الأبرياء وهم يبكون ويصرخون خائفون من أن يلاحقهم الموت لما رأوه من مناظر للجثث والأشلاء دون غيرها لتجعلهم يشعرون بالغضب، فمنظر الدماء والأشلاء مؤلمة جدا للشعور الإنساني، ولكن هل من شعور واحساس الآخرين بذلك !!
لكم الحق في الحزن والتعبير عن مشاعر المصاب يا أهل غزة، فإسرائيل أعدمت وسلبت كافة مقومات حياة الإنسان هناك، فلم تعد للكهرباء والمياه والبيت وجود، بل سلب من المواطن عمره, وسلب منه مناماته، وسلب منه صباحاته الجميلة وتفكيره وهواءه وأجمل سنواته المفعمة بالحياة، فلم تعد تسع غزة للألم والوجع، ورغم ذلك تبقى غزة شمس الحياة ..