الموت الأليف - احمد دحبور
كنت في مقتبل العمر، حين قرأت صرخة شاعرنا الكبير توفيق زياد: آه كم موت علينا هذه الأيام أن نهرب منه؟ وكان طبيعيا أن تعلق تلك الصرخة بالذاكرة والوجدان، فنرددها غير مرة «لكل مناسبة موت تعترضنا. وإذا كان الموت، كما في الأمثال، هو الكأس التي تدور على كل الناس، فقد كان مشروعا، بقدر ما هو مؤلم، أن نحذر هذه الكأس ولا نجد بدا من تجرعها بأشكال مختلفة، ولهذا نحن على قيد الحياة والأمل..
هذه الكأس التي تدار علينا الآن من معين غزة، تفتح السؤال على مصراعيه: لماذا نحن؟ لا لأننا نحتكر الموت ونختص به، بل لأنه آن لهذا العالم الأصم الأبكم أن يرى، صحيح أن هذه الشكوى تضمر فخرا مبطنا بقافلة الشهداء المستدامة، ولكن الصحيح أيضا أننا متخنون ومبرحون بسلسلة لا نهائية من الألم، واذا كان الأعداء يألمون كما تألمون فليس في هذا كبير عزاء، ولكنه باب للعناد، وانه لعنيد هذا الشعب العصي على الانقراض، ولا يملك إلا أن يواصل السير على الحبل المشدود، ممتلئا بما يرى - واننا لنرى فلسطين..
أذكر، منذ بضعة وثلاثين عاما، أن أسرتنا فتحت عيونها ذات يوم، فإذا بها أسرة شهيد!! ولم ننفرد بهذه الصفة وهذا الامتياز، فما من أسرة فلسطينية لم تتجرع هذه الكأس ذات يوم، وكان الجرح ساعة ينفتح، يوحي بأنه عهد جديد للألم خاص بنا، ولكنه لا يلبث ان يسفر عن حقيقة تراجيدية، مفادها أن هذا الموت هو طارئ حقا لكنه أليف، وسرعان ما نتعود احتماله كحقيقة هي من أقدار الشعوب، وعلى من لم يفقد عزيزا أن يرفع يده لتردد من فوقه السماء: ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا..
إلا أن الشهداء سرعان ما يعودون، لا بشخوصهم وأجسادهم المثخنة، بل بمن يلحق بهم في هذه المسيرة المخضبة بارادة الحياة. هكذا تعودت أمهاتنا أن يطلقن على المواليد الجدد أسماء الراحلين الأعزاء، وهكذا لا يملك الغاصبون إلا مزاولة مهنتهم التقليدية بالقتل والمزيد من القتل، فيما يقول شيخ فلسطيني على قارعة الطريق: نحن هنا والزمان طويل.. على أن لهذا الطويل نهاية، وقديما تنبأ الرواد والشهود والشهداء بأن الضوء يلوح في آخر النفق، فمن قال إن الوطن بعيد أو إنه مستحيل؟
كنت أظن، يوم استشهد أخي كامل، بأن أمي ستظل تبكي حتى نهاية العمر، ولكنني - أنا الذي ظننت هذا - رأيت أمي تزغرد حين رأت أحد أبنائها عائدا بالسلامة إثر واحدة من المجازر الكثيرة التي تعرضنا لها في هذا الوطن الكبير! إنها لم تقايض على ذاك بهذا، ولكنها ضمدت ذاك الجرح بهذا الفرح المفتوح على الأمل، ولا بدع في ذلك، وليس هذا تقليدا فلسطينيا بل هو في صلب الملحمة الانسانية، و
يا أمنا هذه منازلنا
نتركها تارة وننز لها
وما دام الأمر كذلك فليس لنا إلا أن نتجرع الكأس حتى القطرة الأخيرة، وليس لمقاومينا البواسل إلا أن يواصلوا ما عاهدوا التراب والكتاب والصواب عليه..
أدرك أن في هذا الخطاب مسحة من لغة تقريرية مباشرة، ولكن قدر الواحد والواحد أن يكونا اثنين، وقدر الليل أن يعقبه فجر موعود..
أذكر أنني كنت في مقتبل العمر، يوم زارنا في احدى القواعد، جان جينيه، الفيلسوف الفرنسي الوجودي الشهير، وقد سألني يومها رأيي في جواب أخيليوس عن سؤال أمه، وهل يفضل الحياة الخالدة الجامدة أم الحياة القصيرة المتألقة الفعالة؟، وأجبته يومها أنه كان يختار الحياة المحدودة المجيدة، ولو لم يكن جوابه صحيحا، أو لو لم أكن أراه كذلك، لما كان من سببب لي للوجود في موقع للفدائيين.. يومها ابتسم الرجل العجوز وتأمل الأفق البعيد متمتما: إن الفجر في أرضكم لا يتأخر عن المجيء؟
وها أنذا، هؤلاء نحن، لا في انتظار الفجر الذي تنبأ به جينيه، بل في العمل على احضاره في أسرع الأوقات.. ونحن في الطريق، تغبطنا الوعود والآمال الكبيرة..