امطار ظ    60 عاما على انطلاقة الثورة الفلسطينية وحركة "فتح"    الاحتلال يهدم منشأة تجارية ومنزلين ويجرف اشجار زيتون في حزما وبيت حنينا    "التربية": 12,820 طالبا استُشهدوا و20,702 أصيبوا منذ بداية العدوان    الاحتلال يجبر الجرحى والمرضى على إخلاء المستشفى الاندونيسي شمال قطاع غزة    إصابة 3 مواطنين واعتقال رابع إثر اقتحام قوات الاحتلال مدينة نابلس ومخيم بلاطة    الأمم المتحدة تطلب رأي "العدل الدولية" في التزامات إسرائيل في فلسطين    عدوان اسرائيلي على مخيم طولكرم: شهيد وتدمير كبير في البنية التحتية وممتلكات المواطنين    الإعلان عن مراسم وداع وتشييع القائد الوطني المناضل الكبير اللواء فؤاد الشوبكي    "مركزية فتح": نجدد ثقتنا بالأجهزة الأمنية الفلسطينية ونقف معها في المهمات الوطنية التي تقوم بها    17 شهيدا في قصف الاحتلال مركزي إيواء ومجموعة مواطنين في غزة    الرئيس ينعى المناضل الوطني الكبير اللواء فؤاد الشوبكي    سلطة النقد: جهة مشبوهة تنفذ سطوا على أحد فروع البنوك في قطاع غزة    و3 إصابات بجروح خطيرة في قصف الاحتلال مركبة بمخيم طولكرم    الرئيس: حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة سيسهم في بقاء الأمل بمستقبل أفضل لشعبنا والمنطقة  

الرئيس: حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة سيسهم في بقاء الأمل بمستقبل أفضل لشعبنا والمنطقة

الآن

الشاعر سميح القاسم يدير «مكالمة شخصية جداً» - أحمد دحبور

قد يكون آخر ما تركه لنا الراحل الحميم سميح القاسم - الا اذا صحح لنا الموثقون - هذا النص العذب الموحي بعنوان «مكالمة شخصية جدا». وغني عن القول ان شريكه على الخط الآخر، من يجري معه هذه المكالمة، هو الشاعر محمود درويش، وان نصغي الى هذين الشاعرين الكبيرين، يعني ان نفتح ابواب الذاكرة على مصاريعها، مع النوافذ وفتحات الهواء، ونتأمل عمرا ثنائيا دراميا اثرى ثقافتنا المعاصرة بأقواس قزح تلوّن المشهد الثقافي وتضيء الفضاء الجمعي، بما يكشف اسرارا حميمة يتطابق فيها الذاتي مع الموضوعي، حتى ليفتح الكتاب دفتيه مرحبا بنا شهودا وزوارا وحميمين في حضرة المكاشفة والتواصل..
والواقع ان سميحا، رحمه الله، كان اجدر الشعراء الفلسطينيين بهذه المهمة العذبة المعذبة، مهمة البوح والمكاشفة وفتح بوابة الاسرار للهواء الطلق.. فبعد ثلاثة وخمسين كتابا، بين شعر ومذكرات ونقد ومواجهات، رفع سميح القاسم سماعة هاتفه وشرع يكالم توأمه في الروح، معززا بوعي جارح ان هذا الذي يصغي الى مكالمته، هو الاخ الذي لم تلده امه، محمود درويش، فقد حق لهذه المكالمة ان تجري، بعد ان تبادل صاحباها الرسائل على مرأى من القراء العرب كافة، فإذا بهما يضيفان فصلا جديدا استثنائيا في الصداقة والمكاشفة والبوح الحميم..
المكالمة الاخيرة
وفي حدود ما اعلم، هذه «المكالمة» هي آخر ما اهداه سميح القاسم للمكتبة الفلسطينية بخاصة والعربية بعامة، على انها لم تكن خطبة وداع بل هي مدخل الى دخيلة كل منهما، ورسالة ثنائية يقدمها هذا الكبيران الى القارئ العربي على امتداد اجياله..
فلنقترب من سماعة الهاتف ولنصغ، ومن الاكيد ان ما يرشح منها سيكون دليلا جديدا لنا نحن القراء المحبين، على عمق هذه الصداقة الفذة بما تشكله من مثال فريد في التواصل والبوح الفلسطيني..
والاكيد ان ما سنظفر به، اكبر من مجرد ارواء فضول، بل هو دخول في المعرفة واقتراب من روح مركبة لا تزال تشغلنا حينا، وتثير حميتنا حينا آخر، حتى لنعترف بها روحا موحدة للضمير الوطني، فأهلا.. وألو سميح..
وبحركة نبيهة من ابي محمد، سميح القاسم، اضاف الى هذه المكالمة الحميمة شيئا من كلام توأمه الروحي، حتى ليبدو هذا الكتاب - المكالمة، بما هو آخر اعمال سميح القاسم نتاجا مشتركا للشاعرين الفلسطينيين الكبيرين، اللذين ملأا الدنيا، وشغلا ناسها في هذا الزمن الصعب، فكيف تخاطب محمود درويش وسميح القاسم؟
لقد جالا معا، وان كان كل على طريقته، في فضاءات الحياة والثقافة، حيث يتداخل الذاتي في الموضوعي، وتركا للقارئ المتابع فرصة التجوال في عالميهما الغنيين، وقد لا يكون في الامر مبالغة اذا قلنا ان هذين العلمين شكلا مدرسة بحد ذاتها في اصول الصداقة والحوار، وحتى الاختلاف.. فليس سرا ان هذه الرحلة الطويلة قد تضمنت بعض ما يشبه الشجار احيانا، ولكن الشجرة السرية الباسقة الطالعة في خبيئة كل منهما، اثمرت فرحا وبردا وسلاما، ودرسا استثنائيا في اطوار الصداقة.
ايقاع المكالمة
ومن اللافت، ايقاعا، ان الشعر في هذه المكالمة، يعتنق البحر المتقارب في زواج سعيد مع المتدارك، بصيغة فاعلن، ليكون الوزن واحدا او شبه واحد على امتداد القصيدة الطويلة المركبة ذات الثلاث عشرة بعد المئة من الصفحات، ولا بأس في ان تتخللها بعض السطور التي تتعمد مفارقة الوزن بموسيقاه التقليدية، ان هذا التركيب الفني البسيط، يقع في صلب تجربة الشاعر الشاسعة مع الايقاع، حتى ليموسق الفرح على مدرج الشجن، ويغني كأعذب ما يكون الشعر الغنائي، حيث لا يصرفه الترنم بمغازلة الحياة، عن عمق المشروع الشعري الوجودي الذي يشكل قوام شخصية الشاعر..
ومن الشيق ان هذه القصيدة المهداة الى محمود درويش يتخللها نص شعري من محمود درويش، وهو نص يعتمد الوزن الذي اعتنقه سميح، كأن الشاعرين في حوارهما الفريد يعيدان انتاج القصيدة نفسها بأنفاس كل منهما، فرحم الله بشارة الخوري الذي انشد مبكرا: فسبحان من جمع النيّرين.
يدخل سميح القاسم على المشهد، وكأنه يكمل حوارا طويلا مع محمود درويش، عمره من صداقتهما الشهيرة الضاربة عميقا في الذاكرة الفلسطينية، والعربية بشكل عام..
هنا يتطابق الذاتي مع الموضوعي، حتى لتحار في امر الشاعر والشعر: اهو يجتزئ شريحة من حياته ويقطّرها شعرا، ام يتوغل في اسرار صديق عمره وكأنهما معا في اوج الجدل..
ومن الاشارات الدالة، في هذا الحوار الخصب، ان المسرح الممهد منذ السطر الاول، يمتد بين حيفا وبيروت حيث تبادلا رسائل المكاشفة واعادة اكتشاف كل منهما لنفسه الى اعادة اكتشاف الآخر..
في حيفا
كنت اتأمل اشجار الكينا، وهو يمازحني بأنه سيقتطع الورق الاخضر المبارك لآخذه معي، ثم يستدرك: ان الشجر لا يسافر، ولا يبقى الا ان نصحح مسار الدولاب، فتعود انت الى شجرات الكينا في حوش دارك، هنا، في وادي النسناس، في هذه الحيفا..
ذلكم هو ابو وطن محمد، سميح القاسم الحسين، اخو اخيه واليد الممتدة الى الاهل والاصدقاء على امتداد خمسة وسبعين عاما، مسبوقة بابتسامة جليلية تشرق في وجهه كأنها تقول حتى لعابر الطريق، شرط ان يكون غير محتل: مرحبا واهلا وسهلا.. وما زلت اذكر - وكيف انسى - يوم حملني بسيارته الصغيرة من الجليل الى غزة، فقد كنت مقيما هناك يومها، وكان المحبون والاصحاب والمعجبون قد رتبوا له امسية شعرية، اظن ان كل من حضرها سيظل يذكرها حتى يوم الناس هذا..
وان يحضر سميح في الذاكرة، يعني بالضرورة، ان يحل توأم روحه محمود درويش، فقد نجح هذا الثنائي الذهبي في ترتيب صداقة ذهبية كانت تدهش المحيطين بتماسكها وجدليتها على ما مر بها من عواصف وذكريات درامية، على ان الاهم الاهم في هذه المشاجاة ان هذا الشاعر المطبوع لم يغب عن ذهنه لحظة واحدة اننا فلسطينيون، وكان بلهجته الجليلية يردد لكل مناسبة: الحمد لله الذي انعم علينا بأننا من فلسطين واليها حتى دهر الداهرين..
أمّ المكالمات
ويبقى ان كتابه الاخير، المكرس لعلاقته بصديق عمره محمود درويش، وهو «مكالمة شخصية جدا» هو آخر ما زفّه الينا الشاعر الراحل الكبير. وحين اصف هذا الكتاب - المكالمة بأنه أمّ المكالمات، فإن ما يعنيني منه انه وثيقة استثنائية عن صداقة استثنائية لشاعرين استثنائيين يكاد شذاها يحملنا من شاطئ يافا الى بيارات الحلم الذي لا ينتهي..
واذا كان شائعا، ايامها، ان يوصف محمود بشاعر الوطنية الفلسطينية فقد كان سميح هو شاعر القومية العربية، ولا يعني هذا بحال انهما استقرا على تلكما الصفتين، بل انهما كانا شريكين في المشهد كاملا، وطنيا وقوميا، وحين صار محمود بيننا لم يلبثا ان تبادلا الرسائل العلنية الحميمة، بما يشكل وثيقة وطنية ادبية وجدانية فريدة من نوعها..
قريباً من القريب
اما تجربتي المتواضعة، فقد جمعتني الى سميح القاسم عام 1984 في وارسو، وما ليس عجيبا اننا وجدنا يومها عشرات ان لم اقل مئات الموضوعات التي نتبادلها، من لهفة الخارج على الداخل وشوق الداخل الى من في الخارج، حتى الاسئلة الوطنية والوجودية الكبرى..
وكان يوم فرحي النوعي، يوم استقبلني سميح في بيته، لم أكن اصدق اني في الرامة، وان هؤلاء محمد ووضاح وياسر، انجال سميح، في كنف نوال، رفيقة عمره الحميمة، حتى اذا حملني، في سيارته، من الرامة الى الناصرة، وجدتني على مشارف الجنة، اما الجنة نفسها فاسمها حيفا، ومن لا يصدق فليسأل أمي، الا ان هذا موضوع آخر..
كان سميح القاسم نسيجا وحده في علاقاته الدافئة انسانيا، وذاكرته الودودة التي تحتفظ بكل ما هو جميل في العلاقات الانسانية، ولم يكن ليضنّ على ضيفه- وهو انا في هذا السياق - بالطواف على معالم الجليل والتعريف بتفاصيلها، الى ان اقتادني، ذات يوم، الى حيفا، وكنت اظن ان لديه عملا هناك، لاكتشف انه بلطفه واريحيته، كان يتعمد ان يريني مسقط رأسي، وقد شدني اليه وانا انشج امام سور البيت، قبالة العم ابي جورج، فيما اخذ ابو محمد، سميح، يقتادني وكأنه صاحب البيت.
مهام شعرية
وكما هي العادة، وكما هو متوقع: ان تكون في حضرة سميح القاسم، يعني ان يملأ المشهد، بطبيعة الحال توأم روحه محمود درويش، ثم تتفرع المناجاة والمشاجاة فإذا بنا مجرد فلسطينيين يفرح الواحد منهما بالاخر ولا يبقى لهما الا ان يقوما بزيارة للحياة..
سألته يومها عن عكا، جارة الرامة وأمها، وسألني - لا ادري لماذا - عن الدار البيضاء متابعا انه كان يحلم دائما بالطواف الحميم في الوطن العربي الكبير بادئا بالدار البيضاء.. وكان على كل منا ان يجول في مساحات كان محروما منها، ويرى في اخيه عينا ترى بالنيابة عنه كل ما لم يكن قدر رآه بعد من ارجاء وطننا الكبير..
وكان ابو وطن محمد، فهذا اسمه ايضا رحمه الله، يتساءل عما اذا كان سيجول يوما في شوارع القاهرة والدار البيضاء ودمشق والبحرين، ثم في طوافه الكبير الشيق الشاق، تمكن من بعض ذلك، وتشهد على هذا قصائده الجميلة الساحرة..
في بداية اكتشافنا، نحن الفلسطينيين في المنافي القريبة والبعيدة، لاهلنا الذين كنا نطلق عليهم: شعراء الارض المحتلة حينا، وشعراء المقاومة حينا آخر، كنا نوزع المهام الشعرية في مخيلتنا عليهم، فمحمود شاعر الوطنية، وسميح ذو ابعاد قومية، وتوفيق زياد شاعر المواجهة والتحدي، فيما يستحق سالم جبران صفة الحارس الوطني.. وشيئا فشيئا اخذوا يصبحون بشرا لا رموزا، فنتفق او نختلف او نتحاور، لكننا في الحالات كلها نطبق ما وصفه شاعرنا الكبير الراحل يوسف الخطيب بأننا - في الداخل والشتات - نصفان لبرتقالة واحدة، وعندي ان المؤرخ الادبي، سيتوقف طويلا، عند هذين الشاعرين، منذ ان كانا وعدين فلسطينيين في العمق الفلسطيني، مرورا بلحظة الجدل والاشتباك، وصولا الى ما انتهيا اليه كشاعرين متميزين يشكلان جملة مفيدة نادرة في خطاب الشعر العربي الفلسطيني.
عودة الى المكالمة
على غير عادة، تجنح زاويتي هذه المرة، بحكم المناسبة، الى ان تأخذ لبوسا وجدانيا حيث تستحيل ازاحة المشاعر في معرض الحديث عن الشاعر، وهذا الشاعر: سميح محمد القاسم الحسين، هو الذي خاطبه صديقه الشاعر محمود سليم حسين درويش في عيد ميلاده الستين، ولم يجد امام تلك المناسبة الخضراء غير ان يحييه قائلا: كل عام وانت في شعر، ولقد صدق فأل محمود فظل سميح ينشد الشعر، يزفه لنا اعيادا جمالية، حتى اللحظة الاخيرة، وهي لم تكن لحظة اخيرة الا بمعنى ان الشاعر في نزهة وجودية، واذا تعذرت عودته من هذا الرحيل، فإن قصيدته تعيد انتاجه وتقدمه لنا بشرا سويا، يليق به ان يحمل الينا انفاس الجليل..

 

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2025