ما هو واقع - عدلي صادق
كنا نكتب مشددين على أولوية السعي في طلب الحياة والعمران، الذي هو قاعدة كل مشروع تاريخي للدفاع عن النفس وعن الحق. ثمة جدال يشغل الرأي العام اليوم، حول قرار البدء في الحرب أو الصبر على انسداد الطريق الى السِلم. ولعل الارتجال هو سبب الافتراض أن أياً من الفلسطينيين يقرر حرباً. فالمحتلون هم الذين يقررون وينفذون بخسّة، وهم الذين يسدون الطريق الى السلم، والمقاومون يردون بما تيسر لهم من نيران جوابية. كنا ننبه دائماً الى مخاطر الانجرار الى حرب، ولم يفارقنا هاجس النتائج، ونحن من صلب حركة مقاتلة وممن أمضوا حياتهم في ميادين الحرب والسياسة. فالأمر ليس ميداناً للعلاقات العامة. وحيال النتائج الكارثية، يعجز الخطباء وتعجز البلاغة، عن تغيير حرف من حجم الألم. أن نقاوم حين يعتدون، فإن هذا هو واجب الشباب، وأن يكون لدينا ساهرون على الثغور، فإن هذا هو واجب الأمم، لا سيما المهددة منها بوحوش آدمية مدججة بالسلاح، ولا يكون لها نصير في الجوار القريب أو الجوار البعيد!
رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وهو المؤيد من ربه، الطاهر الكيّس، الذي أحبه كل المؤمنين؛ وقف مشدوهاً أمام نتائح غزوة أحد، وأجهش بالبكاء. كان عمه حمزة، أحد الشهداء. وقف على جنازته منتحباً وقال:"لن أُصاب بمثلك أبداً، ما وقفتُ قط، موقفاً أغيْظُ اليَّ من هذا".
ذلك على الرغم من أن رهط المسلمين، لم يتعد الـ 700 مقاتل، بينما المشركون كانوا ثلاثة آلاف. لكن الصادق القوي الأمين، وهو يرسم صورة النهاية، تجاوز عن كون القوة الأضعف، التي معه، أبلت بلاءً حسناً في بداية المعركة واقتربت من النصر لولا مغادرة الرماة لمواقعهم واستعجالهم على الغنائم. فقد تحدث عن النتيجة بمنطق النتيجة، وأيده رب العالمين في الآية القرآنية بصيغة الاستفهام التقريري:" أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ". ففي ذلك المثال، لم يشأ رب العزة، أن يؤسس لقاعدة قياس خاطئة، تجعل الألم والخسارة والدمار وامتلاء المقابر وانعدام أي ربح من المعركة، انتصاراً!
من حق المقاومين أن يفاخروا بشجاعتهم. وربما المبالغة في الحديث عن انتصار، وعن البدء بحيفا والانتهاء بحيفا، يساعد العدو على تمرير روايته لدى من استفظعوا جرائمه، وكأن حيفا دُمرت على رؤوس ساكنيها من اليهود.
ليس من حق الخطباء أن يرسموا صورة لما حدث تخالف الواقع. ومن حق الناس على "حماس" وفتح" وسواهما المطالبة بواقع وطني جديد، تؤخذ فيه الخيارات بعد قراءة المشهد الوطني والإقليمي، على أسس صحيحة، علمية وواقعية، مع كثير من جسارة التحدي، الذي يقف عند حدود المقامرة بأرواح الناس وممتلكاتها ومقومات حياتها الطبيعية ولو في الحد الأدنى.
واجبنا أن نضع النقاط على الحروف، وفاءً للراحلين الشهداء، ولأطفالنا الذين اغتيلت طفولتهم، وللمنكوبين أصحاب المنازل التي دُمرت. بقدر ما نزداد حقداً على القتلة، وإصراراً على ملاحقتهم قضائياً؛ نقترب من أنفسنا ونحقق وئاماً وطنياً. كثيرة هي المتطلبات الإنسانية التى استعصت على الاستجابة، كان وما زال بمقدورنا نيلها لو كنا موحدين. بل إن الاحتلال الذي أصر على حرماننا منها، طرح أثناء التفاوض العسير، مقاربات للتملص، تتمحك بشرط وجود السلطة الواحدة، وكأنه يعتمد على ميل بعضنا الى استمرار الخصومة.
لا بأس من التغني بصمود الذين صمدوا، دون أن نتوقف عند عامل احتباسهم الذي لم يدع لهم من خيار سوى الصمود مع الألم وتوقع الموت. ولا بأس من المفاخرة بشجاعة المقاومين. أما الحديث عن انتصار، فلا يستقيم مهما برع في الشرح أصحاب البيان البليغ.
تعلمنا، مرة أخرى، ألا مدد يمكن أن يأتينا. كنا نذكّر بذلك. ومثلما قال الشاعر محمود سامي البارودي: لست بعلام الغيوب وإنما/ أرى بلحاظ الرأي ما هو واقع.