قَرْصْة الأُذن - عدلي صادق
ربما يكون نشر الأميركيين المفاجئ، لوثائق سرية تتعلق بمشروع السلاح النووي الإسرائيلي؛ معطوفاً على الفتور الذي اعترى علاقة الإدارة بحكومة نتنياهو على صعيد التفصيلات، لا على صعيد جوهر العلاقة. ولعل إدارة الرئيس أوباما، تقصَّدت ضرب عدة عصافير بحجر واحد. فقد أرادت تطيير رسالة الى الحزب الجمهوري تقول إن إسرائيل لم تعاند سياسة البيت الأبيض، ولم تتغالظ معه، في عهد الديمقراطيين وحسب؛ وإنما فعلت ذلك في عهد الجمهوريين ورئيسهم القوي ريتشارد نيكسون الذي أطاحته فضيحة «ووتر غيت». ففي تسلسل الوثائق، جاء أن نيكسون اشترط على اسرائيل لكي يسلمها طائرة «فانتوم» أن تتخلى عن سلاحها النووي وعن صاروخ «أريحا» الاستراتيجي الجديد، القادر على ضرب العواصم العربية القريبة. لكن غولدا مائير، في العام 1969 حملت الى واشنطن ثلاث لاءات حاسمة في هذا الشأن: لا توقيع على معاهدة منع الانتشار النووي، ولا مراقبة أميركية على مفاعل «ديمونا» ولا ربط مقبولاً بالنسبة لإسرائيل بين صفقات الطائرات والتنازل عن السلاح النووي. وتمضي الوثائق التي فضحت التراجع الأميركي عن كل الاشتراطات المتعلقة بهذا السلاح. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الموقف الأميركي الذي يشدد على عدم انتشار السلاح النووي، يعاني من فجوة معيبة، وهي غض الطرف عن إسرائيل التي أصبحت طليقة على هذا الصعيد، تنتقل براحتها مما تسميه الوثائق «الخيار التقني» الى تثبيت عناصر التفجير على رؤوس صواريخ تتوافر للجيش الإسرائيلي على المستوى العملياتي.
تعود الوثائق التي كشفت عنها الإدارة الأميركية في الأسبوع الماضي، الى فترة تبدأ من العام 1968. واتخذ قرار رفع السرية عنها منذ ثلاثة أشهر، وكان النشر قبل أيام. وما قاله المعلق العسكري لجريدة «هآرتس» أمير أورون، عندما ركز على كيمياء العلاقة الشخصية بين رئيس حكومة الاحتلال ورئيس الولايات المتحدة، باعتبارها عاملاً حاسماً؛ كنا سنقوله لو ان أمير أرون لم يقله، وسنزيد عليه قائلين إن إدارة أوباما تعمدت قرص أذن نتنياهو والحزب الجمهوري معاً. فالأول يتناغم مع الأخير علناً، ويتدخل في الشؤون الأميركية الداخلية، ويستقوي بجبهة اللوبي الصهيوني والحزب الجمهوري. لكن أوباما الذي تضبطه محددات السياسة الأميركية العامة حيال إسرائيل، ولا يحيد عنها في الجوهر؛ لم يكن لديه ما يفعله مباشرة، وإنما لجأ الى الفعل غير المباشر، وكشف عن وثائق مر عليها 45 عاماً.
واللافت في الوثائق، هو ما ينم عن لعبة إسرائيل القديمة ــ الجديدة، وهي التعنت حيال أية قضية والتشكي والمبالغة في القلق وفي التهيؤ لعمل عسكري، مع التلميح الى احتمالات التخفيف من هذا التعنت إن حصلت على ترضيات تزيد من قوة جيشها. وإسرائيل تعرف أن تعنتها يضرب في مقتل، أية منظومة مبادىء يسعى الأميركيون الى تكريسها، كما يضرب أية محاولات لتسهيل علاقاتها الدولية. وكان هنري كيسنجر حاضراً في الوثائق، باعتباره هو الذي صاغ وثيقة طويلة، عندما كان مستشاراً للأمن القومي، أراد من خلالها إقناع الإدارة بأن تزويد إسرائيل بطائرات «فانتوم» سيجعل اسرائيل تعامل بليونة مع طلب الولايات المتحدة وتساعدها على بناء منظومة دولية مُحكمة لمنع انتشار السلاح النووي، وتساعد وليم روجزز مبعوثها للسلام المخادع آنذاك. وحين يتأمل واحدنا ما جاء في الوثيقة المسماة NSSM40 الممتدة لـ 107 صفحات؛ يلاحظ أن اليهودي كيسنجر كان يلعب دوراً فيه من التحايل لصالح إسرائيل، ما يعينها على مضاعفة قدرتها النارية ويعزز لديها تقنيات القصف الرقمي من الجو، أثناء حرب الاستنزاف مع مصر، من خلال تزويدها بـخمسين طائرة فانتوم» أميركية، على أمل أن تتماشى مع الأميركيين وتدعمهم وهم يحاولون تثبيت منظومة عدم انتشار سلاح الدمار الشامل، وتحريمه من طوره التقني الى طوره العسكري.
بنشر هذه الوثائق، لم يعد بمقدور إسرائيل الاستعانة بالصمت الفصيح الذي يؤكد ولا يؤكد على وجود سلاح نووي. فقد تحدثت الوثائق عن مشروع نووي قديم، وعن صاروخ طورته إسرائيل في العام 1969 بالتعاون مع مصانع «مارسيل داسو» الفرنسية يبلغ مداه 500 كم ويحمل رأساً متفجراً. وهذه الجزئية، تنسف القناعة التي نام عليها العرب، بخصوص دور فرنسي يلتزم الموقف الديغولي المعلن، عن وقف تزويد إسرائيل بأي سلاح لأنها كانت البادئة بالحرب في العام 1967.