ضمادات : (2) رفح بحاجة الى مجمع طبي وإعلامي - د.مازن صافي
كثيرٌ مما سجلته في مقالي اليوم هو عبارة عن مقتطفات سجلتها أثناء عملي في مجمع ناصر الطبي أثناء العدوان الغاشم على شعبنا البطل.
وفي الحرب حكايات لا يمكن أن نصدقها لو قيلت لنا ولم نشهدها ..
اليوم الجمعة 26 للعدوان الأول من أغسطس 2014 كنت مناوبا صباحا في المستشفى، كان الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، كنت أتابع بتأثر بالغ ومشاعر حزينة جدا تجمع سيارات الإسعاف والناس من المنطقة الشرقية من خزاعة وعبسان والقرارة وهم يستقبلون الشهداء .. فاليوم هو الأول للهدنة، وفرصة لكي يتم سحب جثث الشهداء المفقودة طيلة الايام السابقة، وكانت تصل أعداد من الشهداء المنتفخة والمحترقة وتفوح منها رائحة تشير الى أنها كانت متروكة لأكثر من أسبوعين .. وكان قلبي منقبضا .. لا أدري لماذا .. كنت استمع لأغنية " رجع الخي يا يمه زغرديلوو .." وفجأة دخل عليَّ زميلي وصديقي أخصائي العناية المركزة يخبرني ان هناك مجزرة في رفح وان الأخبار تقول أن هناك العشرات من الشهداء والمئات من الجرحى وعلينا ان نستعد، وبالفعل دقائق حتى وصلت التفاصيل .. مجزرة بشعة في رفح في المنطقة الشرقية من رفح في حي الجنينة تحديدا وبدأنا في استقبال حالات خطرة جدا وبحاجة الى العناية المركزة وكان عدد من طاقم الطوارئ قد غادر لبيته في رفح وفي خان يونس بعد أيام طويلة قضوها ليل نهار في المستشفى وكانت الهدنة فرصة ذهبية للذهاب لبيوتهم والتعرف على حاجة أسرهم ومن ثم العودة للمستشفى، لكن ما حدث كان فوق التصور وفوق ان تتحمل طواقم عير مكتملة الآن في طواريء المستشفى.. وحضر كثير من الأطباء من كل التخصصات لتدارك الأمر بأي صورة.. وبعد استقبالنا الدفعة الأولى وما علمناه من ضباط الإسعاف ان هناك العشرات في الشوارع وان مستشفيات رفح وغزة الأوروبي مكدسة فيها الجرحى والشهداء وان هناك العشرات في البيوت المدمرة أيضا اضطررت ان أكتب على صفحتي في الفيسبوك : "الآن عشرات الإصابات في رفح .. امتلاء العناية المركزة في مستشفيات النجار والأوروبي .. حالات عديدة وحرجة تصل إلى مجمع ناصر الطبي، ضباط الإسعاف يصرخون : امتلاء مستشفيات رفح والناس جرحى في الشوارع ولا نستطيع الوصول لهم .. وشبكة جوال معدمة الآن .. وتعذر الوصول للطواقم الطبية .. وحسبنا الله ونعم الوكيل"، ولاحقا قال لي مدير التمريض انه كان نائم وقام ابنه بإيقاظه بعد ان قرأت تغريديتي على صفحتي في الفيسبوك، وقام على الفور وتواصل مع العديد من الكوادر التمريضية والطوارئ وحضر بسرعة فائقة للمستشفى .
وكانت لازالت تتوافد جثث الشهداء ممن لم يتمكن سابقا من سحبهم ... ويعلو تكبيرات الأهالي امام بوابة الاستقبال، وفي
عصر نفس اليوم 26 للعدوان وفي يوم رفح النكبة والدماء والقتل والتشريد والقصف جاءتنا الى مجمع ناصر الطبي سيدة في بداية الخمسينيات من العمر ومعها شاب صغير .. وجهها شاحب جدا ومرتبكة .. تسأل عن ابنتها الصغيرة والتي تبلغ من العمر 15 عاما .. تقول هل جاءتكم .. لقد جاءت في الوقت الذي كنا نرتب أدوية ومهمات طبية لتزويد مستشفى الكويتي البديل عن مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار الذي أغلق تم أن تم قصفه وكان المستشفى البديل سيكون هو الرديف لاستقبال الجرحى في طريقهم إلى الخارج .. صمتنا .. وقلنا لها .. هل هي جريحة .. قالت لا اعلم .. شهيدة لا اعلم .. قالت ذهبت الى مركز تسجيل الشهداء لم أجدها .. هي فقدت في اللحظات الأولى للقصف على رفح شرق حي الجنينة .. وفقدنا أثرها .. قلنا نعم لدينا طفلة من خمسة أيام مجهولة ولم يتعرف عليها احد ومصابة .. وطفلة تم التعرف عليها .. وسألناها ربما تكون في مستشفى غزة الأوروبي .. ربما في المستشفى الكويتي .. ولم تنتهي ربما ... ربما .. والإجابة لا بحثت عنها في كل تلك المستشفيات ..
أخر شيء قالت الأم وفي داخلها حزن متفجر وحيرة : هل جاءتكم أكوام من اللحم والعظم " أشلاء" .. وفتحت يديها وكأنها تمسك بشيء من اللحم، ربما هناك كومة أشلاء .. ربما تكون هي .. وكانت الإجابة لم تأت أشلاء أو جسد بلا رأس اليوم .. وخرجت ولم تعقب .. وكنت أتساءل في داخلي هل تناثرت جثتها في الشوارع وفوق البنايات التي قصفت ام هل ابتلعتها الحفر التي تصل إلى عشرة أمتار وأكثر من صواريخ القصف ام ماذا .. حسبنا الله ونعم الوكيل .
اليوم وبعد انتهاء العدوان نذكر ان محافظة رفح بحاجة ماسة إلى وجود مجمع طبي يغطي احتياجات السكان وفي كل الظروف، وكما ان هناك عتب على الأخوة الإعلاميين، فالكثير من الإعلاميين الكبار والمحترفين من محافظة رفح، لكن رفح لم تحظ بالتغطية الإعلامية الكافية طيلة العدوان، ولربما من قام بتغطيتها إعلاميا هم الصحفيين الجدد الذين كانوا على قدر المسؤولية وقاموا بدورهم الإعلامي الوطني والمهني، وبالتالي نقول أن رفح وبمن فيها من أبناءها من الإعلاميين يجب ان يقوموا بواجبهم تجاه مدينتهم وان يبدعوا في ذلك وفي كل الأوقات أيضا ..
ملاحظة/ في يوم مجزرة رفح استشهد زميلنا الحكيم يوسف شيخ العيد في قصف إسرائيلي للإسعاف التي كان بها واستشهد معه اثنين من المسعفين أيضا وقد احترقت السيارة بالكامل.