الحوار وشجاعة المصارحة ! يحيى رباح
يقترب حثيثاً الموعد الذي تقرر لانعقاد مؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة، بعد الكارثة التي خلفها العدوان الإسرائيلي لمدة واحد وخمسين يوماً، حيث يقر الجميع سواء على صعيد الأمم المتحدة، أو أطراف المجتمع الدولي، وكذلك تقديراتنا العربية والفلسطينية أن حجم الدمار الذي لحق بقطاع غزة على الصعيد البشري والإنساني والبنية التحتية والمساكن والبيوت غير مسبوق، وبالتالي فإن إعادة الإعمار هي ضرورة ملحة، تعادل الحياة أو الموت، وأننا جميعاً في كل الفصائل والمؤسسات الرسمية والأهلية بل وحتى على مستوى الأفراد لدينا تجربة صادمة بأنه إذا لم يكن طريق إعادة الإعمار سالكاً عبر المعايير التي نحفظها عن ظهر قلب، فإن إعادة الإعمار لن تتم، والمبالغ التي نحتاجها لن تصل، وأن أياً من الأطراف الأخرى سواء عربية أو إقليمية لا يمكنها أن تحل بدلاً من الأطراف الدولية، لأن المعايير المطلوبة سارية على الجميع، فهل هناك أحد لا يعرف هذه الحقيقة؟
وأبرز هذه المعايير أن تكون هناك سلطة شرعية، وحكومة شرعية يعترف بها الجميع، وكان هذا في ذهن جميع الأطراف الفلسطينية في كل حواراتها التي استمرت لسنوات من أجل الوصول إلى المصالحة ونبذ الانقسام وتكريس أدوات وهياكل الوحدة الوطنية، فهل هناك من ينكر هذه الحقيقة؟
وابتداءً من نهاية شهر نيسان الماضي، حققنا نقلة نوعية بتشكيل حكومة التوافق الوطني التي اتفقنا على أن أهدافها تتمثل في إعادة الإعمار، وإجراء الانتخابات، وتوحيد المؤسسات، وصولاً إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على قاعدة المشاركة الفعالة والشاملة، وإصلاح وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى إنجاز مشروعنا الوطني المرحلي بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشريف، وهو المشروع الذي تقدمنا به خطوات رئيسية إلى الأمام بتصعيد فلسطين دولة مراقب، دولة تحت الاحتلال، وتمكينها من أن تكون عضواً مشاركاً في خمسمئة واثنين وعشرين اتفاقية ومعاهدة دولية، وأننا بالفعل أصبحنا أعضاء في خمس عشرة منظمة ومعاهدة واتفاقية دولية، من بينها اتفاقيات جنيف الأربع، ونعد العدة للدخول إلى المزيد من هذه المنظمات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
فهل كل الأطراف التي أنجزت المصالحة، وشكلت حكومة التوافق الوطني، ووقعت على ضرورة الذهاب إلى المنظمات الدولية سارت في النهج الصحيح، وتصرفت بإيجابية؟ أم أن بعض الأطراف الفلسطينية وأخص بالذكر حركة حماس محت في الليل ما كانت قد وقعت عليه في النهار؟
من هنا تأتي ضرورة المصارحة وشجاعة المصارحة وشرف المصارحة، لأنه في القضايا الوطنية الكبرى، فإن كل ما يبنى على الغش والخداع وإزدواجية المعايير ونظرية " قدم في الجنة وقدم في النار" سرعان ما ينهار، وهذا هو الخوف القائم الآن في وجه المصالحة وفي وجه حكومة التوافق الوطني، وفي وجه متطلبات المشروع الوطني، وفي وجه متطلبات إعادة الإعمار.
بعد اتفاق المصالحة بخمسين يوماً بالضبط، أي في الثاني عشر من حزيران الماضي، حدثت عملية خطف المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة، وحيث لم يتبن أحد من الفصائل هذه العملية، فقد وقفنا جميعاً صفاً واحداً في الدفاع عن حماس التي اتهمت من قبل إسرائيل، وقلنا للإسرائيليين بصوت واحد وشجاع: هاتوا برهانكم؟ واتخذ الحادث ذريعة علنية صاخبة لعدوان شامل غير مسبوق على الشعب الفلسطيني ما زال مستمرا بأشكال متعددة، مداهمات واجتياحات واعتقالات بالآف وتدمير هائل وموت كبير وموجات استيطان كاسحة وإحراق لأبنائنا واغتيال لأسرانا في السجون، بل وصل الأمر في قرية كفل حارس إلى سرقة أشجار الزيتون بعد اقتلاعها، ثم كانت الصدمة العنيفة القاسية حين فاجأت حماس الجميع، الجميع بلا استثناء، بأنها كانت وراء عملية الاختطاف، وأن هذا الاختطاف – كما قال صالح العاروري – لم يكن بهدف إلحاق الأذى بالاحتلال بل كان هدفه استدراج ردة فعل قاسية من قبل الاحتلال تكون غطاءً لإحداث انقلاب عسكري في الضفة على غرار الانقلاب في قطاع غزة!!! فأين أصبحنا الآن؟
يجب أن نمتلك شجاعة وشرف المصارحة، لأن الخسائر أفدح ألف مرة من إمكانية السكوت عليها، ولأن الصورة المشوهة التي ترسم لشعبنا الفلسطيني أقسى ألف مرة من أن نسكت عنها، وكيف سنستمر معاً ما دمنا نقبل بعضنا أمام الكاميرات بينما الخناجر الغادرة جاهزة لكي نغرزها في الظهور؟
أنا لا أتحدث هنا عن المعاملة الشائنة التي يلقاها أبناء فتح وكوادرها وقياداتها في قطاع غزة، ولا عن منع حكومة الوفاق من العمل ولو بالحد الأدنى، ولا اللغة الساقطة التي يتحدث بها بعض الناطقين باسم حماس ضد الشرعية الوطنية الفلسطينية ورئيسها ورجالها.. إلى آخر المسلسل المعروف، لا أتحدث عن ذلك لأن حركة فتح لو قررت الرد بقانون "العين بالعين والسن بالسن" لأصبح الوضع مختلفاً جداً، ولكن فتح آمنت منذ البداية أنها صاحبة المشروع، وأم الطفل، وسادنة الحلم والأمل، وأن قدرها الذي ارتضته أن تتحمل من أجل الهدف الأسمى، ولكنني أقول انه دون تشخيص دقيق وشجاع فلن يلتئم الجرح، ودون شجاعة وشرف المصارحة لن يصدق أي كلام أو حوار، ودون أن يكون هناك مقدس فوق الفصائل وفوق التجاذبات الإقليمية وفوق الصفقات التي تعقد هنا وهناك، فإن المصالحة التي نطلب منها أن تحلق في سماء الوحدة الوطنية ستظل طائراً ذبيحاً بينما نحن نطالبها بالمستحيل.
الوقت يداهمنا مثل طوفان كاسح، فالمفروض بعد أيام أن نعود إلى القاهرة عبر الوسيط والشقيق المصري مع إسرائيل على مطالبنا، فبالله عليكم إذا بقي الحال على هذا المنوال فمن ذا الذي سيصدق أكذوبة الوفد الموحد؟ وإذا بقيت حكومة الوفاق الوطني ممنوعة من الصرف، فمن ذا الذي سيرسل ملايينه وملياراته لإعمار قطاع غزة؟ وإذا بقي التهديد صريحاً بأن حماس ستفاوض إسرائيل وحدها – إذا صحت الأقوال التي نسبت للأخ العزيز الدكتور موسى أبو مرزوق – فكيف سندفع مشروعنا الوطني حسب خطة الرئيس أبو مازن إلى منصة مجلس الأمن؟
نحتاج إلى شجاعة وشرف المصارحة، حتى لو كانت المصارحة ستكشف عن الوجع، فنحن نصرخ ألماً حين نخرج الرصاصة من اللحم الحي، ولكنها حين تخرج يصبح جرحنا نظيفاً، ونذهب إلى الشفاء.