أم مسعود في ذمة الله - عدلي صادق
غيّبَ الموت أختنا زكية شموط، المناضلة الفلسطينية الجليلية، والأسيرة المحررة، التى أبعدها المحتلون في الثمانينيات، مع زوجها محمود. استقرت زكية في الجزائر وأحبت فيها شعبها وأرضها وشاطئها وجيرانها ولهجتهم الدارجة. عاشت زكية مستأنسة بملاذها الجزائري الأخير، الذي اجتمعت فيه عناصر مشابهة لموقع الصدر من فلسطين، حيث الأراضي الخضراء، ونقطة التقاء البحر مع السهل الساحلي والكرمل. كانت زكية راعية أغنام لا تعرف من موضوع الصراع سوى حكايته الأولى المختزلة، والشواهد اليومية أمام عينيها. التحقت بالمقاومة، وقامت بما طُلبَ منها في مرحلة انفتاح هذا الصراع على خيارات القتال دونما قيود أو حسابات أو عوائق. علمتها المساحات المفتوحة، والسكون، أثناء ملازمتها لقطيعها؛ كيف تسلي نفسها وتغني وتصدح بصوت قوي. فقد تطبعّت على كون الحياة والراحة في الدنيا، هي تلك التي تجري بخصوصية أقل، وفي أماكن بلا جدران. يغويها الانفتاح على الأفق وعلى الناس. وعندما لفظها السجن، ومنيت بالحرية في صيغة التهجير القسري، حلّت في الجزائر، تاركة بالاكراه، أبناءها الكبار، في الجليل يستأنفون حياتهم وفق الايقاع السائد في أراضي 48. رافقها زوجها «أبو مسعود» والقاصرات من البنات. وعندما حلّت في الجزائر، صنعت من الحي ومن البناية، فضاءً أوسع من دارها، فان خبزت تخبز لنفسها وللجيران، وان استقبلت زوارها وزائراتها، فانها تستقبلهم بالجملة، فيضيق بهم المكان. وان رفرفرت الرغبة في أكلة «كرشة» تجلب أمعاء عشرين خاروفاً فتُعد قدراً كبيراً، من كرات محشوة بالأرز، يكفي للمعلوم مجيئهم وللطارئين. هي أم لكل شاب. فمن أراد أن يتزوج، تتعهد «أم مسعود» بالعثور له على من تناسبه، بعد معاينة وضعه كاملاً، فتتمثل دور أم العريس، وتضمن دوراً رئيساً في حفل الزفاف، اذ ترتدي الثوب الفلسطيني، وتغني أهازيج وطنية، وقد أعدت فرقة كورالية ترافقها وتساعدها. وفي السياق كله، كانت الراحلة «أم مسعود» صوتاً ناطقاً بحقيقة الوطن والسجن والكفاح الوطني. في روايتها، تختلط المأساة الانسانية بعنفوان المقاومة. حملت سجن الرملة على أكتافها أينما ذهبت وجعلته مفتتحاً للحديث، تأتي بعده أحاديث الأرض والأهل والجذور. أما «أبو مسعود» فقد صنع لنفسه مسبحة من ألف حبة، يفتش بينها عن خاطرة أو عن فكرة للأمل ويدير اسطوانة أحلام اليقظة بشكل طريف ومحبب. أطلق العنان لرؤى العودة والتحرير، وهُيئ له أنه يرى فيما يرى النائم، رسول الله عليه السلام الذي يختصه بحديث خاص وبأنباء لا يبلغها لغيره. زكية تخبز وتطبخ وتخوض في حيثيات اجتماعية وتنفتح على كل أفق، وهو يلتزم عمله في الملحقية العسكرية نهاراً ويخوض في أحلامه ليلاً. لكن «أم مسعود» ظلت المرأة الفلسطينية المناضلة، الحاضرة بحكايتها، في كل مشهد من الجزائر الفلسطينية أو من فلسطين الجزائرية. كنت قد أرحت ضميري، عندما اقتنصت لهما شقة سكنية، من تلك التي منحها حزب جبهة التحرير للعسكريين الفلسطينيين، ورفعت عنها عبء كلفة الاستئجار. احسست أن عمرها وعمر زوجها، لا يكفيان لتحقيق حلم العودة الى فلسطين، وأن الجزائر هي ملاذهما الأخير. كان لا بد من بيت فيه بعض التعويض عن مراعي الوطن، ويكون عليه كل العبء في صون كرامة الشيخوخة.
أحزنني موت أختي «أم مسعود». تذكرت مفارقات كثيرة وجلسات سمر، مع أطرف سيدات وطني ومجاهداته من الفئة شديدة البساطة والتلقائية. رحم الله زكية شموط وأسكنها فسيح الجنان!