صوت الرجل الناصع في البرية - عدلي صادق
قليلون، في هذه اللُجّة العربية السقيمة، الذين توقفوا عند تجربة " السيد" هاني فحص، لكي يتأملوا تميزه وخلفياته الفكرية والثقافية. ذلك علماً بأن هذا الناصع، عاش ومات جديراً بأن يقدم لناس الأمة، ترياقاً يُشفيها من أحزانها وأوهامها ونعراتها وذعرها الداخلي. فهو، حتى عندما خذلته السياسة في بلد مسكون بنزعات طائفية؛ لم يفتش لنفسه عن موجة يركبها، لكي يحظى بموقع في صدارة المشهد. فليس أعمق غيبوبة وانسياقاً، من ذلك الذي أعماه السعي الى الوجاهة الفارغة، البائسة في الجوهر، عن رؤية رزايا المشهد السياسي في بلاده.
الشاب اليافع الذي كانه هاني فحص في العام 1964 عندما ارتحل الى النجف، لكي يتلقى علوماً دينية وأدباً؛ كان سيّد نفسه، تُحصنّه منظومة قيمية، أعلت من شأن الأخوة في الوطن وفي العروبة، بالقدر الذي جعلته يتحاشى الدخول الى شرنقة التابعين من الطائفة الذين لا يرون إلا ما يراه الملالي القائمون على الاجتهاد والتلقين في مركز المرجعية الدينية الشيعية. هناك، أخذ العلم والفصاحة، وأدرك أهمية الحوار البنّاء، ضمانة العيش الإيجابي والمواطنة والتشارك الخلاق، مع كل الأطياف في البلاد. صادق الجميع، وطبّق مقولة أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا حوله، ونجح في تعيين الفارق الذي ينبغي أن يكون، بين رجل الدين الموسوم بالتزمت واحتكار الحقيقة، ورجل الدين المثقف السمح واسع الصدر الذي لا يحتكر شيئاً، ويأخذ من كل علم طرفاً، ويعرف ما تتطلبه الدنيا مثلما يعرف ما تتطلبه الآخرة.
لم ينبثق اعتدال هاني فحص، عن مواويل موصولة بدهاليز الأغراب وخططهم، مثلما كان الحال بالنسبة لسواه من المعممين المبشرين بالاعتدال والوسطية. ولم تكن واقعيته معطوفة على موقف نظام حكم أو سلطان. كانت التجربة وحدها، بالنسبة لرجل حاد البصر قوي الملاحظة، هي التي جعلته يقرأ السياسة بمنطقها. فقد علمته التجربة، أن التطرف محكوم عليه بالفشل، لأن قوى الاستكبار العاتية إن احتملت الاعتدال بالكاد وخدعت المعتدلين وضللتهم وتحايلت عليهم، فإن التطرف هو الذي يتيح لها السانحة للإجهار على الأمة بشراً وحجراً ومقدرات ومصائر. كان انتماؤه لحركة التحرر الفلسطينية، هو عنوان التزامه بالعروبة وبقضيتها المركزية. ولأنه يعرف أن السياسة لا سياق لها سوى الخط المتعرج، ويدرك أن حركة التحرر الفلسطينية لن تحيد عن أهدافها؛ فقد ظل على اتصاله بــ "فتح" مقدراً مكابدتها في الخضم العسير. وفي سنوات حياته الأخيرة، ظل يتعاطى مع الحقائق وخلفيات الوقائع، دون أن يُعير اهتماماً للشعارات ذات الوعود الكبرى. ودأب المُعمم المثقف والمفكر، على البحث في عمق المسائل والتعبير عن قناعاته بجرأة رجل مؤمن. ليس أجرأ من اللبناني السُني أو المسيحي، الذي يجاهر بقناعته بحق الشعب السوري في الحرية وإنها زمن الاستبداد، إلا اللبناني الشيعي الذي يجاهر بالقناعة نفسها، بينما هو في قلب الطائفة التي باسمها يعارض متنفذوها هذه القناعة.
من داخل الطائفة، في قلب الوطن، قال هاني فحص: "أنا من قرية جبشيت، لبناني مسلم عربي شيعي إنساني. إن الآخر ليس عابراً في وعيي وتكويني. الآخر المختلف، ساكن ومقيم في عقلي وقلبي. هو سؤال يُلزمني يومياً أن أتعرف الى ذاتي، وأن أفكك الصورة النمطية لذاتي عن ذاته"!
ما أبدع هكذا إنسان. لقد اختصر بكلمات قليلة المأزق والحل، في صيغة تصلح لأن تكون نبراساً لشعوب العديد من الأوطان. إنها صيغة ترسم الطريق الى الوطنية التي باتت شرط الحياة الصعب والمفتقد. رحم الله هاني فحص الناصع، الذي عاش حتى الرمق الأخير يصرخ في البرية!