الشاعر ممدوح السكاف مهموما «في تأمل الشعر» - احمد دحبور
من حق هذا العيد الاربعائي، بعد سنوات من انطلاقته، ان يأخذ جانبا ذاتيا من حياة صاحبه كاتب هذه السطور، فقد اشتققت هذا العنوان من وحي علاقتي بمدينة حمص السورية التي رعت طفولتي ويفاعي وصولا الى مشارف الكهولة، وفي العنوان - كما يعرف ذوو الصلة - دعابة مع تلك المدينة الساحرة، ذلك ان اهلها يتوارثون يوما في الاسبوع ويعتبرونه عيدا محليا، ذلكم هو يوم الاربعاء الذي «يحق» للحمصي فيه ان يرتكب اشكالا من الطرائف «سمها حماقات خفيفة الدم ان شئت» بدعوى ان الاربعاء عيد حمصي بامتياز!! وقد لا يعرف الكثيرون ان هذا «العيد» النادر ليس لهجاء مدينة ابن الوليد والعاصي، بل هو من ابتكار هذه المدينة واهلها الذين يداعبون انفسهم اذا لم يجدوا من يتحرش بهم..
ولهذه المدينة الخالدة حراس ودعاة يفخرون بانتسابهم اليها، وبيوم الاربعاء الذي يعدونه يوما حمصيا بامتياز، حيث يحق للحمصي فيه ان يزاول ما شاء من الطرائف والغرائب والمماحكات. وربما كان صديقي واستاذ يفاعي ممدوح السكاف الهاشمي من اوائل من يحق لهم الفخر بهذه الخصوصية الحمصية، بل انه لا يزال الى اليوم - وهو المولود عام 1938 - يتميز باللهجة الحمصية القديمة المحببة في سورية. ويسعدني، في هذه الاطلالة، ان يكون عيد هذا الاربعاء مخصصا لابي رضوان، ممدوح السكاف وكتابه النقدي «في تأمل الشعر»، وهو كما يشير عنوانه، ليس نقدا صرفا مع ان فيه الكثير من ذلك، بل هو مدخل الى التأمل في الشعر، والتبشير به، والصدور عنه..
ابواب وفصول
وليس كتاب «في تأمل الشعر» بالكتاب ذي الحجم الكبير، الا انه للمفارقة لا يعد كتابا صغيرا فهو ممتد على خمس واربعين ومئتي صفحة من القطع الكبير، تستوعب ثلاثة ابواب واسعة، فيشتمل الباب الاول على احد عشر فصلا، والباب الثاني على ثلاثة فصول، والباب الثالث على ثلاثة فصول ايضا، وكذلك الباب الرابع، وهو بهذا الترتيب شبه الهندسي يجول بين الخواطر النقدية العامة، الى ما يصفها بمدونات شعراء الحداثة، ويدرس شعراء بعينهم هم موريس قبق وتوفيق صايغ واحمد عبد المعطي حجازي، مع وقفة لافتة عند ثلاثة شعراء سوريين معاصرين وازنين هم علي كنعان وممدوح عدوان ومحمد عمران رحم الله الراحلين وحرس الاحياء، ولا تتوقف الجولة عند من ذكرنا بل انه خصص مساحات لافتة لسنية صالح ومحمد الماغوط وعبد الكريم الناعم الى اهتمام خاص بتجربة شاعرنا الكبير محمود درويش.
وإنها لعلامة دالّة، ان يفتتح كتابه بفتح باب الذاكرة حتى ليكاد يعيد، بالكلمات، بناء مدينة حمص، مدينة نهر العاصي، وحاضنة الكثير من الشعراء المتنوعين من وصفي قرنفلي الى رفيق فاخوري الى محيي الدين درويش وابنه عون الى نذير الحسامي حتى نصل الى موريس قبق وعبد الباسط الصوفي وعبد السلام عيون السود، ومن حق ممدوح نفسه ان يضاف الى هذه الكوكبة مع اصدقائه غسان طه وشكري هلال ونصر الدين فارس، وتطول القائمة حتى الاحراج، اذ ليس من السهل ان تغفل قوافل المبدعين مثل مصطفى خضر وعبد الكريم الناعم وصولا الى جيل فرج بيرقدار وليست هذه الاسماء الا عينات مضيئة في كتاب حمص الشعري.
واذا افتتح «ابو رضوان» كتابه هذا بفصل حول «ذكريات ليل الشعراء» فإن من شأن هذه الذكريات - لو كانت الفسحة كافية - ان تطول وتتمادى حتى تسحب الدمعة من جذر العين، لا حنينا الى زمن مضى وحسب، بل حسرة على شظايا زمن لا يزال بين ايدينا ولكننا لا نستطيع ان نحيط به دائما فهل الخلل فينا ام في هذا الزمن الضيق الصعب؟
سفر في المكان
يتميز كتاب ممدوح هذا، كشخصه حسب معرفتي به منذ عقود، بقراءة نقدية انتقائية يوجهها توق الى المعرفة والاكتشاف، فقد يبدأ من ذكريات وملاحظات فردية، كاستحضاره للشعراء الاصدقاء علي كنعان وممدوح عدوان ومحمد عمران وقبلهم موريس قبق، ويجول ذهنيا في عوالم السياب وتوفيق صايغ وصلاح عبد الصبور وغيرهم، ليخلص الى نظرية صعبة تقول ان التجربة نقيض للرؤيا «غير ان الشاعر وحده يستطيع بما لديه من رؤيا فريدة جلاء المضامين التي تخفى على سواه» واسمح لنفسي بالتدخل قليلا لانصاف التجربة التي لا تقوم الرؤيا الا بها والا لكانت مراوحة ذهنية مجردة. ومن حسن الطالع ان ابا رضوان مؤمن بهذه المزاوجة بين الرؤيا والتجربة لانجاز شعر حضاري متقدم ملاحظا «ان اللغة والحياة منجمان ثريان للطاقات ذوات المستويات المختلفة في شتى ادوات تعبيرها المتفاوتة في قيمتها الفنية»، وهو لا يصل الى هذا الا بعد الطواف والتمعن في خريطة الشعر العربي من نهضوية البارودي الى حداثة ادونيس، حتى لو كان ارتباط الاول بالتراث مهيمنا فيما كان ارتباط الثاني - ادونيس والاجيال اللاحقة - حداثيا ضاربا في عمقه وجذوره وحيويته «الى الصميم المستمر الحضور والتأثير في الاجيال والاحوال والاتصال من غير انفصال» ولا يزال ابو رضوان يدرس ويستقرئ ويتابع، حتى يصلني الدور بالتعريف والتنويه، فشكرا له على كل شيء.
ولا يخفى على المعنيين ان معاركة موضوعة الحداثة في الشعر، لا تقف عند نقض الماضي والتثنية على انجازات المجددين، بل هي مشاركة وانخراط في التجربة، بمعنى ان ممدوحا في تشخيصه النابه لموضوعة الحداثة انما يسهم في المشروع النوعي المفتوح الذي يستدعي مشاركة الجميع، فليست الحداثة لحظة وجودية لمبدع فرد - على اهمية دور الفرد في الابداع - ولكنها مواكبة يومية حساسة حتى ليبدو المجددون انفسهم بعضا من الماضي اذا ركنوا الى الراحة او توقفوا عن ارتياد المكان الشعري المتناسل من امكنة سابقة، وامكنة تلوح في افق الشعر وتفاجئ الشعراء الذين كتب عليهم ان مضى عهد الراحة.. فالشعر سفر شيق شاق لا يعد بهناءة البال، وان كان يغبط الشعراء المحكومين بالمرور على «جسر من التعب» حسب تعبير جدنا الشعري الخالد ابي تمام.
شعراء ودواوين
انها تحية غير مقصودة يوجهها الصديق ممدوح السكاف، الى ذاكرتي وذائقتي عندما يخصص فصلا من كتابه هذا للتعريف بالشاعر الفلسطيني المنكود توفيق صايغ، فقد عانى هذا الشاعر المعذب المغترب كثيرا من الانكار والاستنكار والظلم الادبي، على ما حقق من اعتراف واسع عبر عنه المرحومان بدر السياب وخليل حاوي وكثيرون من الاعلام الوازنين كالشاعر سعيد عقل على سبيل المثال، اما جبرا ابراهيم جبرا فقد تكون شهادته مجروحة، بحكم صداقته العميقة لتوفيق صايغ فضلا عن القاسم المشترك بينهما وهو انهما فلسطينيان، ويكمل ابو رضوان، ممدوح السكاف مأثرته الطيبة بتخصيص فصل نوعي لدراسة صديقه واستاذ عمري الشاعر موريس قبق، مشيرا الى شغف المرحوم موريس بالابداع ونحته للقصيدة، ولعلي اشهد في هذا المجال ان وزن موريس كان ينقص احيانا وهو يكابد قصيدة من العيار الثقيل، فما عرفت شاعرا كان حريصا على نحت شعره بالاناة والجهد اللذين كان يبذلهما موريس رحمه الله، ثم يصل البحث بممدوح الى الراحلين الكبيرين محمد الماغوط وسنية صالح التي رحلت قبل زوجها الماغوط فكتب فيها نصا عفويا فائق العذوبة والشجن. ولعل ذيوع اسم الماغوط اثر سلبا في شهرة سنية التي وان لم تكن كثيرة الانتاج قد تميزت بصفاء غير عادي واسترسال في منتهى العذوبة والحميمية.. تقول مثلا:
لا شيء غير الجمر
كل احبائي فيه
او راحلون اليه:
مزق الخزامى الوجيعة
والمصابيح المطفأة
في منفى القلب
واذا كنت لا اعرف من نتاج سنية صالح، الا مجموعتها «الزمان الضيق» فإن هذا يكفيني للاعتراف بها شاعرة ذات وقع مميز وصوت خاص، اما المرحوم الكبير محمد الماغوط فيكفينا منه ما يبوح به لرفيقة عمره سنية بالقول انها كانت «امي ومرضعتي وحبي ومرضي، وكان رأيها اساسيا فيما اكتب، فإذا كتبت شيئا وترددت امامه كنت امزقه فورا..» رحم الله الزوجين المبدعين..
وحتى تكتمل رسالة كتاب ممدوح السكاف وعذوبته، يبزغ فصل في الكتاب حول قصيدة محمود درويش الشهيرة «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» فيتعقب بقدر من الحذق والدأب تتابع الضمائر في هذه القصيدة التي تحولت على يد شاعرها الكبير الى وثيقة روحية نادرة، ويقول ممدوح في هذا: «يعبر الشاعر عن صيرورة الاندماج بين الضمائر وحلولها في بعضها بعضا وانصهارها في بوتقة التجدد والتغير» بل انه يذهب حتى الى متابعة «ضمير» العدو في هذه القصيدة الفذة. والحق ان هذا الباب كان يستحق، لولا ضيق المساحة فصلا مسهبا يليق بالشاعرين المدروس والدارس. وقل الامر ذاته في شأن ما كتبه حول احمد عبد المعطي حجازي وعبد الكريم الناعم.
خلاصة جامعة
في احدى شذراته المتناثرة يقول ابو رضوان «اللغة حبيبتي والحلم صديقي» ولعل هذا التعبير المكثف يشكل خلاصة جامعة لجوهر هذا الكتاب، فممدوح السكاف مشغول باللغة لا بما هي اداته المركزية في التعبير وحسب، بل بما هي قرينة للحلم الذي يتجاوز شرط وجودنا الفيزيائي، وفي شذرة لاحقة يقول: «الشاعر الرومانسي انسان ممسوس بتحقيق ما لا يقع في الواقع، ويحيل ما هو واقع الى خيال».. وعندي ان هذه المقولة - الصحيحة بالتأكيد - ليست خاصة بالشاعر الرومانسي وحده، بل انها تمسّ كل شاعر حقيقي على اختلاف مذاهب الشعر والاشكال التي يتبعونها في بناء قصائدهم. ذلك ان الشاعر بطبيعته متشوق الى عالم لا يراه من حوله، ومنادى من خطاب متغلغل في الروح والذاكرة والحدس. والى ذلك يمكن تلخيص الشاعر بأنه قرين اللغة وخدين الحلم.
ولعل من اكثر شذرات ممدوح دلالة قوله: «حالما اخرج من دوامي في عملي الاداري يعود اليّ الشاعر» واذا كنت اوافق على هذا الرأي بحماسة فعلى افتراض ان الشعر لا يغيب عن الشاعر حتى يعود وقت الراحة، ولكنه يكمن في خبيئة الوعي، ولا يدري احد متى يفرض الشعر حضوره وانفجاره في ذات الشاعر، ويدعم هذه الفكرة قول لاحق للمؤلف.. «آه لو تواتيني الشجاعة لأتلف كل ما كتبته من شعر.. القصيدة شيء آخر» وهو قول نابه يذكرني بتعاليم المرحوم موريس قبق الذي كان يوصيني، وانا في مقتبل العمر: حاول ان تتجاوز ذاتك دائما فقد لا تكون مساء ذلك الشخص الذي كنته في الصباح، والشاعر الشاعر - ولا يزال الكلام لموريس - هو من يسهم في صياغة الشاعر الذي سيكونه في مرحلة النضج، ولا خوف عليه من عدم الفهم «وليس من الضروري ان تفهم الشعر بدرجة او بأخرى.. لان الشعر في احد مفاهيمه هو فن يحس به احساسا مجهول الهوية». وليس في هذه المقولة اهانة للمعنى، بل اعادة اعتبار الى المقصد الشعري حيث «الشعر كمون يتفجر في لحظة الانفعال المنبثق وبرهة التدفق الساطع، فيهدم كل ما حوله من العاديات والآثار والهياكل والمحنطات». وحتى تكتمل الفائدة المضفورة بالفرح الفني، يخصص ممدوح فقرات للتعريف - قل لتحية عدد من اصدقائه الشعراء علي كنعان وممدوح عدوان ومحمد عمران.. اما موريس فهو لم يكف عن استحضاره والزهو بتجربته الشعرية البرناسية، ولا ادري لماذا يخصص ابو رضوان كتابا يصفي حسابه الجمالي مع الشعراء الذين يعرفهم ويحبهم، فقد يكون تأثر ببعضهم، واثر في بعضهم الآخر.. وتلك سنة الحياة، اقول ولا يغيب عن ذهني ذلك الفصل الجميل من كتابه حول مجموعة «الحب واللاهوت» لشاعرنا المرحوم الغالي موريس قبق.
سؤال الحداثة
وممدوح السكاف كشاعر باحث لا يمكن ان يقفز على موضوعة الموضوعات الجمالية، وهي حداثة الشعر العربي المعاصر، حيث الحداثة ليست حالة مقصورة على التجديد، بل هي قطع مع السكون والجمود واتصال بالحياة والحركة ويولي اهمية نوعية لحدود اللغة واساليب الاداء الشعري بما يستتبع ذلك من تطوير وتحديث. ويشدد على اهمية امتزاج الشاعر بروح الشعب، «فالشعب مورد حياة لا تنضب، اما الطبيعة فحالة آنية زائلة».
ويختم كتابه الجادّ هذا بقراءات لتجارب الشعراء توفيق صايغ وموريس قبق وسنية صالح ومحمد الماغوط حيث لكل شاعر منهم صوته وخصوصيته واضافاته، ويختم المؤلف كتابه الجميل بقراءتين لمحمود درويش وعبد الكريم الناعم بعد ان يأخذ من كل منهما نصا شعريا يعبر عن شخصية الشاعر المدروس والافق الشعري الذي يحكم تجربته.
ونخلص الى ان هذا الكتاب وليد متابعة مخلصة للمشهد الشعري العربي، على ما يحمله هذا المشهد من الوان وتنوع ومغامرة جمالية، ما يغرينا بالقول ان مكتبتنا المعاصرة اشد ما تكون حاجة الى هذا النوع من الكتب، حيث يتضافر البحث النظري المجرد مع الدراسة التطبيقية الرصينة المنزهة عن الهوى العابر والآراء الفردية.
وعندي ان اهمية كتاب ممدوح السكاف هذا شأن الكتب الشبيهة مستوى وموضوعا، تكمن في انه يتجاوز الخاطرة الارتجالية ويستدرج المتلقي الى معايشة النصوص المدروسة، فإذا بنا في محفل ثقافي اكثر مما نحن مراجعون لكتاب محدد، وهذا يعني بالضرورة ان الكاتب لا يملي على قارئه ذوقا خاصا في اختيار هذا المبدع او ذاك، ولكنه يقوم بدور الكشاف الذي ينير المشهد وما على المتلقي الجاد الا ان يرى ويفاضل ويحكم.
بقي ان نذكر - وهل يمكن ان ننسى؟ - ان ابا رضوان الذي جمع بين الشاعر المطبوع والدارس المحقق، كان يحرص في كتابه هذا على تنحية القراءة الانطباعية لصالح البحث والدرس، فالشعر مسؤولية باهظة لا على مستوى الابداع وحسب بل على مستوى القراءة والمراجعة ايضا، ونلاحظ ان ثمة حبل سرة يربط بين الشعراء الذين قد درسهم، فصحيح ان الحداثة تجمع ما بينهم، لكنها حداثة التنوع والاختلاف والخصوصية، فالشعر في احد تعريفاته الممكنة هو لهب الابداع ونار الاختلاف وسلسبيل الفرح الفني، وحسب ابي رضوان انه يضع هذا كله في الاعتبار وهو يقدم هذا الاثر النقدي المسؤول.