الحشرة والحسرة - عدلي صادق
في هوامش الكارثة والبطولة في غزة، تنوعت أشكال الصمود والألم. كان ثقيلها محتملاً، لكن بعض خفيفها بدا عسيراً ومحرجاً وخانقاً. كثيرون لجأوا الى المدارس الخالية، بعد أن طال القصف التدميري الحقير بيوتهم، ونَسَفَ معها استقرارهم واقتلع رسوخهم. لكن الأكثرين، هم الذين لجأوا الى بيوت أقاربهم في أحياء أخرى، فاكتظ المكان ووقعت الضغوط المضاعفة على المرافق، فشقَّت على الساكنين، الاستجابة، لرغبة الاستحمام أو قضاء «الحاجة» بينما المياه شحيحة أصلاً والطريق الى باب الدار عُرضة للقصف. فإن بشَّرت الصنابير بخرير الماء، يأتي الغيث شديده الملوحة. غير أن ملوحة المياه، تُعد حميدة، بالقياس الى ملوحة حال طارئة وثقيلة، ارتسمت على الوجوه وتذوقتها قلوب القائمين في محشر المكان. ثمة عوامل موضوعية كانت تغذي خطاً سيكولوجياً يندفع بقوة في الاتجاه المعاكس للخط الطبيعي، لحياة اتسمت بالأريحية والحب. كان الضيف والمضيف، في أيام الرخاء، يتوادان برقة، ويشتاق واحدهما للآخر ويأنس به. لكن الموت والقصف والدمار من حولنا، فضلاً عن انقطاع الكهرباء وشُح المياه والطعام، والاكتظاظ في البيوت الناجية من القصف؛ جعل الخط النفسي والعاطفي المضاد، يتبدى بألوان ملابس الحاضرين وسحناتهم. فالسبب، وهو العدوان الذي تعمد إيقاع لسعة كَيْ مؤلمة للوعي الإجتماعي والإنساني في قطاع غزة؛ يوزع النتائج على المقابر والمشافي، وعلى البيوت التي يأوي اليها الناجون!
كم من الأرغفة، وماذا من «الغماس» يكفي للحاضرين المُكرهين على «الزيارة» والإقامة، وأولئك المضطرين للاستقبال والترحيب؟! كيف الوصول الى السوق والخبز أو الدقيق، إن كانت هناك سوق؟ وإن لم تكن هناك سوق، فماذا يأكل الحاضرون؟ وإن أكل الحاضرون فكيف يغسلون أيديهم ويتبولون بسرعة كلما ألحت المثانة. لا بد أن تكون هناك علاقات تكسّرت، وأخرى تسامت بمفعول قدرات احتمال صوفية، تحاكي صبر واحتمال ممارسي «اليوغا» الذين برعوا في إظهار الزهد، والانصراف الى التأمل الفلسفي، فاكتسبوا بصيرة نافذة وخبرات روحية، وفهماً عميقاً جداً لجوهر كل محنة!
كثيرة هي الطرائف التي اقتنصها الغزيون من لقطات المحاشر. بعضها جارح يجسد الحسرة والهذيان، وبعضها خفيف، مثل حكاية الزوج الذي آوى مع عائلته وجيرانه الى إحدى المدارس، ولما اختلف مع زوجته وأصر على «تحريدها» حلف عليها بالطلاق أن تذهب الى «صف» أبيها وذكر لها رقمه. ربما ذلك الزوج، لجأ الى الإصرار على الطرد، رفعاً عن كاهله، حصتها من الماء والطعام والأنفاس!
لا أرغب في استطراد حول لقطات المحاشر في غزة، أثناء الحرب التي شنها العدو. فلا يصح أن نرش على الموت سُكَّراً، لكنني في القاهرة، التقيت مع أرباب بيوت، غشاها ضيوف من غزة تمكنوا من الوصول. البيوت هنا، في معظمها، شقق متفاوتة المساحات، كل واحدة منها تسمى شقة حتى وإن كانت شُقيْقَة. ولأن الناس في غزة مفعمون شهامة وكرماً، فقد ظن الواصلون منهم الى مصر، أن بحبوحتهم مضمونة عند أقاربهم في القاهرة التي شيمتها الاكتظاظ. فكل من له قريب، أحس أنه له عُمق. لكن الطرائف تنشأ عندما تختلف حسابات الحقل عن حسابات البيدر.
من الطبيعي ــ مثلاً ــ أن يرى أقرباء العزيز الذي يرافقني في القاهرة، وهو أطول رجل في العالم، أن قريبهم الفارع، عريض المنكبين، قادر على استيعاب العائلة كلها لو استطاعت الوصول. لكن الحقيقة، إن الشقة صغيرة لا تستوعب واحداً زائداً من طليعة القادمين، فما بالنا بمن سيتوافدون بعدئذٍ، بينما الرزق ضئيل. حتى تلك اللحظة، كانت العلاقة شاعرية بين الضخم وعائلته، لكن حدث الحرب ضَرَبَ القافية و «لخبط» الشِعر. استقبل صاحبي طليعة الوافدين واحتفى بهم، بمائدة ازدانت بدجاجتين. لكنه، في اليوم التالي، أحس أن زمن الإقامة غير محدد، وأن الأمر آيل الى انكشاف الحال، ومن ثم العودة بالشعر الى ما قبل النَظْم. بدأ ينفّس لأصحابه، كمن يتوخى تشجيعاً على المصارحة وطلب المفارقة. قال لواحد من الناس فيما يُشبه النميمة:»جاءوني بأنصاف كيلوات من القهوة وبزار البطيخ والزعتر وإضمامة ميرامية، ويريدون الإقامة عندي، وهذا صعب عليَّ. إنهم لا ينّقطون. وفي الحقيقة هم معذورون، لأن دراهمهم استهلكتها كلفة الوصول».!
ما أكثر الأذى الذي الحقه المحتلون الأوغاد بنسيج المجتمع الفلسطيني، وهذه واحدة ــ فرعية جداً ــ من صنوفه، قوامها الحشرة والحسرة!