الباقي عندنا - عدلي صادق
لم يأتِ التأكيد من خصم أو من "عزول" لحركة "حماس" على أن الأميركيين تعمدوا خلط الأوراق ودفعوا في اتجاه دخولها انتخابات كانون الثاني 2006. وكنا أكدنا ذلك مراراً محذرين "حماس" من الغلو في السياسة ومن الوقوع في الفخ، ودعوناها الى الأخذ بمقتضى الإحساس بالمسؤولية عن مجتمع لا يملك مقومات شن الحرب التحريرية وحده. وللأسف، كان كلامنا يؤخذ من جانب "حماس" وكأنه نوع من الهجاء أو التشويه. وها هو أمير قطر نفسه، يؤكد عبر شاشة CNN على أن الأميركيين طلبوا من والده الأمير السابق الشيخ حمد، أن يحث "حماس" على دخول العملية الانتخابية. وعلى الرغم من امتناننا للشيخ تميم، على هذا الإفصاح الذي جاء في سياق محاولة لتخفيف التأثيم الذي أبدته أطراف أخرى لعلاقة قطر بحركة "حماس"؛ إلا أن إفصاحه كان مقتضباً، وكأنه يقول لنا "والباقي عندكم"!
نعود الى التذكير بهذا الباقي. فقد استجابت "حماس" للحث الأميري وشطبت فتوى تحريم الانتخابات التي صدرت في العام 1996 وتجددت في العام 2005 لكنها انقلبت فجأة الى نقيضها وباتت حلالاً، مع انطلاق الانتخابات البلدية والقروية التي سبقت الانتخابات التشريعية. ومعلوم أن نتائج الانتخابات الأولى، أضافت عناصر ترجيح أخرى، الى التوقعات بفوز "حماس" في الانتخابات الثانية.
الأميركيون والإسرائيليون دفعوا الأمور في اتجاه مشاركة "حماس" التي قدروا أنها ستحقق فوزاً بأصوات أعلى مما حققت فعلاً. وكانت قيادة السلطة والمنظمة، تتوقع فوز "حماس" لسببين رئيسيين، الأول عدم رضاء جزء كبير من الناس عن أداء هذه السلطة، والثاني أن "فتح" مشتتة وستتوزع أصواتها. وبالفعل فازت "حماس" بعدد أصوات لا يصل الى عدد ما حصل عليه الفتحاويون من القوائم الرسمية لحركتهم ومن الأصوات التي حصل عليها فتحاويون آخرون. وبالنتيجة كانت "فتح" ككتلة هي الخاسرة!
لماذا أصر الأميركيون على أن تجرى الانتخابات في موعدها ورفضوا الاقتراح الفلسطيني بتأجيلها؟ ولماذا استجابوا هم والإسرائيليون للمطلب الذي ألحت عليه السلطة وظنت أنه تعجيزي عندما اشترطت أن يسمح المحتلون بإجراء الانتخابات في القدس الشرقية وهو ما يرفضه الإسرائيليون من حيث المبدأ؟! لقد فاجأوا السلطة بالاستجابة، إدراكاً منهم أن الاشتراط كان للتعطيل، فلماذا ضغطوا لكي تجرى الانتخابات في موعدها ولا تنجح السلطة في التعطيل؟
تهيأ الأميركيون والإسرائيليون لأحد سيناريوهين لسلوك "حماس" بعد الفوز: أن ترفض العملية السلمية بالمطلق، وتدفع الأمور الى تأسيس سياق آخر غيرها، أو أن تتصرف بواقعية ومسؤولية فتتريث ويتبدل خطابها ليصبح مناسباً لتحمل المسؤولية عن شعب ومجتمع وقضية ويحاذر!
السيناريوهان كانا مفيدَيْن لإسرائيل ولأميركا. الأول سيكون مردوده على الإسرائيليين، الحصول على التأكيد الدامغ الذي يحتاجونه، وهو عدم وجود شريك فلسطيني، وسيقولون لمن يكذبهم: اسألوا "حماس" الفائزة التي تحكم، هل تقبلوننا شريكاً في عملية سلمية؟ وسيأتيكم الجواب فوراً: كلا وألف كلا. وعندئذٍ ستحصل إسرائيل مجاناً على خمس سنين تحتاجها لاستكمال بناء الجدار العنصري، ووصل مستوطنة "معاليه أدوميم" وسائر المستوطنات التي تخنق القدس بالمستوطنات التي تقع شرقها، وتسد الفجوات باستيطان مكثف، دون أن يلومها أحد في العالم بسبب كلا وألف كلا!
أما الفائدة الأميركية، فهو أن "حماس" ستتبدى في العالم الإسلامي كأيقونة جهادية، فتصبح الجديرة برجحان كفتها على كفة "السلفية الجهادية". ومعلوم أن هذه الأخيرة، في حال اشتباك مباشر مع الأميركيين، وشتان عند المسلمين بين من يقاتلون في "أرض الرباط" ومن أجل قضية، ومن يقتلون في غير سياق ويحزّون الرؤوس بالسكين ولا تُعرف لهم قضية محددة، فلو عرفت لهؤلاء قضية لكانوا عصبة واحدة وليسوا ألوية وكتائب وجبهات منفصلة عن بعضها البعض وتحارب بعضها بعضاً. بعدئذٍ سيتولى المحتلون فتح حرب مديدة مع "الأيقونة" يتاح لهم أثناءها إيلام حاضنتها الاجتماعية في العمق، بالقتل والحصار.
سيناريو الاحتمال الثاني، أن تتصرف "حماس" بمسؤولية وواقعية، وقد أعدت لهذا الاحتمال تدابير أخرى، قوامها أن يأتي دور "الجماعة" لتدويخها مثلما جرى تدويخ الحركة الوطنية الفلسطينية وجعلها مثقلة بقيود "أوسلو" وبالتنسيق الأمني مع إسرائيل. بل إن اعتراف "حماس" بإسرائيل، في حسابات الأخيرة سيكون أهم من أي اعتراف عربي يقدمه الساسة سراً أو علانية، لسبب لا علاقة له بالأوزان وإنما لأن اعتراف "حماس" بإسرائيل سيكون اعترافاً للمرة الأولى من حركة أيديولوجية عربية وفلسطينية، وهذا مهم وأبلغ بالنسبة لهم!
لكي يتهيأ المشهد لتلك اللعبة المعقدة، دفعت تل ابيب وواشنطن الأمور و"الأصدقاء" لكي يضغطوا ولكي تفوز حماس وتحكم وينشطر بطن المشروع الوطني الفلسطيني الى نصفين ويضيع. شكراً لأمير قطر الشيخ تميم، الذي أباح بعنوان الحكاية وهو يعلم أن الباقي عندنا!