ماذا عن نوح إبراهيم ؟ احمد دحبور
عرض التلفزيون الفلسطيني، مشكورا، لمحة خاطفة عن حياة الشاعر الشعبي الشهيد نوح ابراهيم، ولنا ان نتوقع صعوبة العثور على المراجع المطلوبة لهذا الملف. اذ من المعروف ان هذا الشادي الموهوب، قد استشهد في قرية طمرة الجليلية عام 1937، عندما لم يكن لدى المعنيين مراجع كافية موثوقة، حتى ان افتراضات متباينة تدور حول اسمه الكامل وتاريخ استشهاده، وان كان بعض كبار السن من اهل حيفا، قد ابلغوني انه ينتسب الى قرية عين حوض وانه من اسرة معروفة باسم «ابو الهيجا» واتفق لي ان عثرت على نسخة من ديوانه المجموع، ولعلي تركتها بين اوراقي المنتظرة في مدينة حمص السورية، على ان ما لا يختلف عليه الشهود الاحياء، هو انه كان - رحمه الله - يتميز بصوت جبلي قوي، وان له تسجيلا صوتيا على اسطوانة - كان كبار السن عندنا يسمونها «كوانة» - ومن اشهر ما تحمله تلك الوثيقة الصوتية، يذكرون انشودة «يا خسارة يا عز الدين» قالها وغناها في رثاء شهيدنا الخالد عز الدين القسام ويؤثر عن نوح ابراهيم انه كان ينظم ويغني قرارات الثورة، فعندما اجتهد الثوار، مثلا، في ارتداء الكوفية والعقال بدلا من الطربوش الذي كان شائعا حتى ذلك الحين، بادر نوح بتحويل ذلك الاجتهاد الى اغنية تقول:
حطة وعقال بخمس قروش والندل لابس طربوش
فخلع رجال فلسطين طرابيشهم، واستبدلوها بالحطة والعقال حتى اصبح هذا الزي رمزا شعبيا للثورة، وهذا ما يفسر لماذا اعتمد زعيمنا الكبير ياسر عرفات اعتمار الحطة والعقال حتى اصبحت الكوفية رمزا لفلسطين في مختلف ارجاء المعمورة.
واذا كان تاريخنا الشفوي المرتجل لم يتمكن من الاحاطة التامة بتلك التفاصيل، فإن التقليد الشعبي العنيد المصر على استذكار هيئة ابي عمار بالحطة والعقال، قد فرض هذا الزي العفوي حتى ارتقى الرمز الى مرتبة الحقيقة التاريخية، وللمناسبة فإن نوحا نفسه - وقد استشهد قبل ان يصل الى عامه الثلاثين - كان مشهورا بالكوفية البيضاء اما عقاله فكان مقصبا كما تدل على ذلك احدى الصور النادرة لقيثارة فلسطين، وشاعر ثورتها الكبرى.. ودعونا نتذكر ان العقال المقصب كان علامة فارقة لنوح ابراهيم لان مجايليه من الفلسطينيين كانوا يعتمدون العقال العادي.
اما اهازيجه التي لم يصل الينا الا بعضها فكانت مدرسة مبكرة في الالتزام ويروي لي والدي ان الشيخ القسام كان يعقد قرانا في احدى قرى حيفا. عندما لفت سمعه ذلك الشاب الوسيم بصوته الجهوري الملعلع، فناداه الشيخ ودعاه الى مجلسه قائلا: لا تزعل مني يا بني اذا وصفت صوتك بأنه كالجرس المعلق في رقبة خروف، ولكن عندما تنشد ما يريده الناس، فالله اعلم بأنك ستكون ذا شأن كبير، وعلى الفور عكف نوح ابراهيم على كتابة احدى اغانيه الثورية التي اصبحت فلسطين من النهر الى البحر ترددها في الاعراس وللمناسبات الشعبية والوطنية.
على ان نوحا لم يكتف بدور الشاعر الشعبي، بل انه امتشق البندقية وشارك في الاعمال الجهادية، وكان ينشد وفلسطين وراءه تقول:
يا يمه لا تبكي عليّي نور الشهادة بعينيّي
ويروى - بعد استشهاده عام 1937 كما سبقت الاشارة - ان معظم حيفا قد خرجت في تشييعه ومعها سكان القرى والمدن الفلسطينية القريبة والبعيدة، حتى اصبح الناس يقولون - على ذمة الراوي: كأنه يوم نوح ابراهيم..
لعل هذه الذكرى المنتزعة من شهادات كبار السن، تدعونا الى فتح هذا الملف جديا، لا اقصد ملف نوح ابراهيم تحديدا، بل الذاكرة الشعبية بمجملها، واذا كنا نتمنى العمر المديد للشهود الاحياء، فإن الوفاء يقضي باستخلاص ذاكرة هؤلاء الشهود، ولا سيما بعد مرور هذه العقود الطويلة حيث لا بديل عمن يتغمدهم الله في رحمته.
وقد يكون مؤلما ان نواجه انفسنا بالحقيقة، فنعترف بأن وفاءنا لمعلمينا وقادتنا الروحيين، كان يشوبه دائما بعض التقصير، ومن يتهمني بالجور على الذاكرة فليتبرع مشكورا بابلاغنا عما يعرف عن نوح ابراهيم وابي سعيد الحطيني والشيخ فرحان سلام وصولا الى صلاح الحسيني - ابي -الصادق. واذا كنت لا انكر ان شعبنا كان وفيا لهؤلاء الرواد الشعبيين، فهل انكر ان ذاكرة هذا الشعب كثيرا ما تنال عنها الحوادث المتعاقبة والهموم المتلاحقة، اما وقد ادركتنا نعمة المطابع وآلات التسجيل والفيديو فلم لا نفيد من مفردات التكنولوجيا المعاصرة لصيانة الذاكرة والتاريخ وتعميق معنى التوثيق؟ صحيح اننا لن نحصل على صوت نوح ابراهيم الذي كان يوصف بأنه صناجة فلسطين، ولكن اعادة الانتاج تظل من الامور الممكنة..
ولان الحديث يجر الحديث، فاسمحوا لي ان استحضر مثالا غير بعيد، فقد غاب عنا، منذ فترة ليست بعيدة، شاعرنا الشعبي الكبير ابراهيم الصالح، المعروف رحمه الله بلقب أبي عرب، وعلى حد علمي فإن لابي عرب تسجيلات كثيرة، ولا ينقص الا ان نوثقها ونصونها من التلف وصولا الى اطلاقها ضمن مشروع برنامج ثقافي لا تزال عناصره قائمة..
فلنتدارك امورنا قبل ان يفلت من ايدينا تراث نوح ابراهيم وابي سعيد الحطيني والشيخ فرحان السعدي وفهمي السلفيتي وابي الصادق، وابي عرب، رحم الله الجميع.
اما وقد اصبح لنا اذاعة مشهود لها، فلنحرص على نجاحها وانتشارها ولنسألها: ماذا عن نوح ابراهيم وبقية الكوكبة التي تحفل بها بقايا الذاكرة الوطنية، أفليس من حقهم علنيا ان يستعادوا بالتسجيلات الحديثة؟ دعونا نأمل وننتظر.