قبل أن تعصف الرياح - عدلي صادق
أوشكنا على دخول فصل الشتاء، ولا تزال غزة في انتظار إغاثة أهلها الذين دُمرت بيوتهم. باتت قضايا رفع الجدران وبناء الأسقف، وانفتاح أفق التغطية لأكلاف المعيشة، وانفتاح المعابر، وإتاحة السفر طلباً للرزق أو تواصلاً مع أجزاء من الأسر؛ تحتل موقع الأهمية الأولى في أوقاتنا الراهنة. أما الأطفال الذين حُرموا من بيوتهم فإنهم في حاجة الى ما يقيهم من برد الشتاء. إن كل المبتغى هو تحقيق الشروط المتعلقة بكيفية الحياة، بينما القضية الفلسطينية فإنها لن تفقد ديمومتها، لكن النضال على طريق العدالة والحق، يتطلب رفع حياة البشر الى سوية الاقتدار، وتجنيبهم المصائر التعيسة!
إن كيفية وجودنا الفيزيائي المتنامي على أرض وطن الآباء والأجداد؛ هي جوهر التحدي في هذه الأثناء. فالإقليم من حولنا يشهد كوارث طالت البشر والحجر، ما يجعل النُصرة العربية والاسلامية التي ظلت مأموله على امتداد تاريخ القضية الفلسطينية؛ غير واردة وتسخر ممن ينتظرها. بل إن ما يجري من حولنا، من ترخيص للموت يتوزع على الراغبين في الترخيص؛ جعل ناس أمتنا في حال مزرية، موسومة بالنزوح البائس لمجاميع بشرية، وبالمعاناة الناجمة عن فجور الأقربين والأبعدين، وعن ممارسات القتل بالطائرات والمفخخات. بات الخبز والمـأوى والماء، في صدارة الأمنيات. فلا شيء يُرجى في هذا الخضم!
على هذه الحقيقة ينبغي أن تُبنى السياسات في فلسطين. عنصر الجدارة والعبقرية، يكمن في التوافر على ضمان عدم الانزلاق الى رقاعة السياسة والتسليم للعدو وفي عدم التزحزح عن الثوابت، مع عدم المغامرة والمقامرة ونكران علم الحساب وأرقام الربح والخسارة قبل فتح النار.
لم يعد للشعارات سوق رائجة. اليمنيون من الحوثيين، يرفعون شعارات فلسطين و"الموت لأميركا" فوق كل شعاراتهم، لكن خراب اليمن لن يُغيث فلسطين ولن يقتل أميركا. ما يُغيث فلسطين ويؤدب أميركا هو الأوطان الرصينة والأمم الناهضة، لا الأوطان المفككة والشعوب التي تصرف على البنادق والخناجر والرصاص للاحتراب فيما بينها، أكثر مما تصرف على الخبز والطبابة والتعليم. ومهما رُفعت من شعارات، فإن الحال المزري وحده، هو الكفيل بتظهير القضايا وجعل مفرداتها إما حكايات أسطورية أو "قاتاً" مخدراً يُمضغ في مجالس السمر!
نلاحظ في هذه الأثناء، أن الناس في فلسطين، يركزون في أحاديثهم على كيفية الحياة وعلى الأمل في التغلب على المصاعب. ويكابر من ينكر هذه الحقيقة. قضايا الحياة وأشياؤها، باتت تسمى بأسمائها. ما عداها معلوم ومكرور، ولن يخترع أحد أية إضافة عليه، ولن يتفتق الذهن الحزبي والفصائلي والسياسي عن زيادة لمستزيد منه.
هناك خطان لإصلاح الحال الوطني، واحد يمثله حال غزة، والآخر يُلح على إنهاض السلطة وإعادة حيثياتها الديمقراطية والسياسية، بعد كل ما وقع من تجريف. لقد دأبت الدول، في كل مرحلة، على تكليف القادرين على الاضطلاع بأعباء اللحظة. ليست هناك مشروعات نهوض، تقوم على البلاغة أو على مهارات التحدث لوسائل الإعلام. البلاغة تفيد في دواوين الإنشاء للنصوص، داخل قصور الحاكمين. قبلها يمكن تعليم الكادر كيف يكتب أو يُلقي خطبة. وعن ماذا يكتب الكادر إن كان كل شيء نائماً والبلاغة منتصبة؟!
يتصل هذا بجوهر العمل في هذه اللحظة الفلسطينية، لإنجاز التوافق على الخطوط العريضة، وترميم الكيانية الوطنية، ودق عمودها عميقاً في الأرض، قبل أن تعصف الرياح بخيمتنا الأخيرة!