الاحتلال تجاوز كل الخطوط الحمراء.... عيسى قراقع
ست ساعات على حاجز جبع العسكري، حشر جنود الاحتلال الناس بطريقة مذلة ومهينة وبدون أية أسباب، تكدس البشر في الشارع وخلف الحاجز، الأطفال، النساء، كبار السن، المعاقون، الحوامل، المرضى، حالة اختناق وتذمر وسخط وغضب، وقيل أن سبب ذلك هو الأعياد اليهودية، وكأن الأعياد عندهم أصبحت أداة من أدوات تعذيب الآخرين، تفننوا وانبسطوا وأشعلوا الشمعدان في معابدهم راضين.
الجنود وقفوا في منتصف الشارع، لا يسمعون ولا يفهمون، ينتظرون من يتمرد من المحشورين ليردوه صريعا، ولا مبالاة أمام تذمر الناس وصوت المزامير والاحتجاجات، والطلبات من المتطوعين الجريئين بالسماح بمرور امرأة عجوز مريضة، الحاجز مغلق، وفوهة البندقية تجيب على كل الأسئلة والمطالب، إضافة إلى حركة الحذاء العسكري الموجهة إلى وجوه الناس العابسة.
شكرا لدولة إسرائيل وقادتها ونوابها ومثقفيها وكتابها ووسائلها الإعلامية، وشكرا لجهازها الأمني المعظم والمتضخم والذي يحميها من القنابل الموقوتة التي تسمى الشعب الفلسطيني.
وكل عام و إسرائيل بخير، دولة محتلة وعنصرية تسيطر عليها الصهيونية والحاخامين وفكر ومدارس الحرب والفاشية، ترسل جنودها إلى حواجز الضفة الغربية، لقمع الناس وملاحقة الأطفال .
لا إحساس لدولة تحولت إلى آلة حربية كبيرة وممتدة، ترسانة صار كل سكانها ومؤسساتها أكاديميات للحرب المعلنة وللحرب القادمة، لا ثقافة مدنية ولا مبادئ حقوق الإنسان، لا قوانين تدين الجريمة، ولا صوت يحذر من انهيار المجتمع الإسرائيلي وغرقه في مستنقع العنصرية والعزلة والتفسخ الثقافي والاجتماعي، ولا صوت يحذر الإسرائيليين من خطورة الاحتلال على مستقبلهم الآن وغدا، إذا ما بقوا جنودا ومستوطنين مشبعين بالحقد الأعمى والتطرف.
في الطريق إلى سجن نفحة مزق جنود الحاجز تصريح أم أسير فلسطيني، طرودها وفي الطريق انهال المستوطنون على أراضي تل الرميدة في الخليل، قلعوا أشجار الزيتون، وعادوا إلى عيدهم منتشين، وفي الطريق انشأوا شوارع وجدرانا ومستوطنات، استعدادا لتدمير أي حلم لدولة فلسطينية قد تقوم على جزء من أراضيها الباقية.
في ظل الاحتلال تكره نفسك، يدعسون على كرامتك ويمتصون من روحك وهجها الإنساني وحبها للحياة، لا حياة هنا، تعيش على الحظ أو الصدفة، كل شيء ينتظر، أفكارك، مواعيدك، أحلامك، خطواتك، جميعها تنتظر، قد تحولنا منذ مائة عام إلى شعب الانتظار على الحاجز، في المطار، في المعابر، داخل الزنازين والمعسكرات، في الوطن والشتات وحتى في مقابر الأرقام، الكل ينتظر وطنا يتعافى ويشفى من جروح المحتلين، ينهض ليحتضن أبناءه الأحياء أو الأموات، ويبدأ من جديد.
في ظل الاحتلال، تكره نفسك، لأن المفارقات ايضا كريهة، الزوار يأتون إلينا بالطائرات، لا يمرون عن الحواجز ولا يرون المستوطنات الحمراء أو الشقراء، تربض فوق ركام أراضينا المنهوبة، وأشجارنا المقلوعة، وسمائنا المحاصرة.
تكره نفسك أكثر عندما تسمع ابنة الأسير إسماعيل الشبح تقول لنا أن عمرها يساوي عمر أبيها الذي قضى 15 عاما في سجون الاحتلال، كبرت بلا أب، وكانت طفلة تنتظر أن تظل طفلة، فلم يسمح لها السجن والسجان.
وتكره نفسك أكثر عندما يحرقون غزة بالصواريخ والقنابل، ويقتلون ويشردون آلاف البشر دون أن يحاكَموا كمجرمي حرب، أو يدفعوا تعويضا للضحايا، ويكتفي العالم بمؤتمر لإعمار الحياة في غزة التي دفنت في قاع الأرض أو في قاع البحر وقد بلعها النسيان.
إذا أردت أن تكره نفسك، تعال إلى فلسطين، وانظر ما تحتك وما فوقك لترى انك معلق بمشنقة الاحتلال اقتصاديا ومائيا وحركيا وطبيا واجتماعيا، مصلوبا أمام العالم وقرارات الأمم المتحدة ونشطاء حقوق الإنسان، يكتبون وصاياك المؤثرة بعد أن تسقط قتيلا.
إذا أردت أن تكره نفسك تعال نقطف الزيتون، الحقل أمامك، هو لك وأصبح ليس لك، وعليك أن تراوغ نفسك لتصل إلى نفسك، إلى شجرتك التي زرعتها بيديك، وأسقيتها دمك ودمعك.
إذا أردت أن تكره نفسك، تعال إلى تلك السجون القديمة الموروثة عن عهود الاستعمار المتعاقبة، المتعفنة، الوسخة، رائحة الموت، وأصوات التعذيب، خربشات أكثر من نصف مليون آدمي دخلوها، بعضهم خرج وبعضهم لم يخرج، تجد نفسك جاهلا بما نصت عليه أحكام ونصوص اتفاقيات جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية حقوق الطفل، لا مكان لها هنا، يقول الجلاد لممثلي الصليب الأحمر المقيدين بسلاسل الاحتلال.
إذا أردت أن تكره نفسك تعال إلى القدس العربية، وادخل بين زمنين لتؤدي الصلاة، زمن عبري للمستوطنين والحاقدين الغرباء، وزمن فلسطيني للعرب والسكان الأصليين، وابق واقفا خاشعا لأنك لن تكمل صلاتك، لن تسجد ولن تركع، أمام دولة دينية يحكمها الحاخام والشاباك ، وعصابات الخطف في حي الطور والعيسوية وباب العمود وسلوان وأبو ديس.
إذا أردت أن تكره نفسك، تعال معي إلى بيت الأسير كريم يونس، هناك أم تنتظر 32 عاما ابنها، الحرب لم تطلق سراحه ولا التبادل ولا السلام، أم مريضة في أواخر عمرها تتعكز على ذراعك لتوصلها إلى باب السجن في زيارتها الأخيرة.
إذا أردت أن تكره نفسك، اخرج معي عبر معبر قلنديا، إلى حاجز جبع ، إلى حاجز "الكونتينر" ، إلى حاجز عصيون، سيمفونية رائعة من الغبار وساعات الحشر والطفر والمطبات والوديان، حكايات الطريق التي تسمعها هي حكاية شعب فلسطين، فربما يفيدك ذلك في الكتابة أو الرواية أو الذكرى إن بقيت حيا.
إذا أردت أن تكره نفسك، لا تصدق أن كل ما يلمع ذهبا، هذه دولة محتلة، لا ميناء، ولا حدود ولا طائرات ولا جيوش ولا بترول ولا تنمية ولا مصانع ولا حديد ولا اسمنت، ولا أدوية كافية في المستشفيات ولا شفاء كافيا ، بلد يعيش بالإغاثة وبالحد الأدنى، بلد يكبر في الشعار وفي الخيال ويصغر في الواقع، قصائد كثيرة ، مؤتمراتنا كثيرة، حركتنا كثيرة، أحلامنا كثيرة، ولكن الذي يحكمنا هو الجهاز العسكري الإسرائيلي، ووزير الاقتصاد الإسرائيلي، وشروط البنك الدولي، وكارتيل غامض من المحتكرين.
إذا أردت أن تكره نفسك، لا ترسل ابنك للجامعة، أقساطها لا تطاق، نظامها خارجي وليس داخلي، كأنها غير موجودة في الأراضي المحتلة، التعليم للأغنياء، بعض الدول تعطينا منحا مجانية، أما جامعاتنا لا تعطينا هذه المنح إلا ما ندر.
إذا أردت أن تكره نفسك تعال إلى المخيم، تتذمر من رائحة المياه القذرة والعادمة التي أطلقها الجنود على الأولاد، ولا تكتئب من مشهد الرأس المفتوح للطفل تامر ابو سالم الذي أصابته رصاصة، ولا تحزن كثيرا على أقدام أطفال بترت بسبب الرصاص وقنابل الصوت، ولا على عيون قلعت واندثرت في العتمة.
إذا أردت أن تكره نفسك
العجز أمام سطوة السيف
الموت دون صراخ
الموت دون صوت
مطأطئ الرأس
على حاجز أو في سجن
يقتلك الخوف.