ايناس.. عصفورة من فلسطين - عيسى عبد الحفيظ
الأحد الماضي التاسع عشر من شهر أكتوبر الحالي وفي صباح فلسطين فلاحي جديد وموسم قطف الزيتون، كانت العصفورتان ايناس دار خليل وتولين عصفور في طريقهما إلى الروضة. لم يمهل القدر هاتين الزهرتين الوصول إلى المدرسة التي كانت بانتظارهما بعد عام كامل.
الأولى ايناس فارقت الدنيا دهساً والأخرى تولين ما زالت في المستشفى تعاني من جراح خطيرة في الجسد، وجراح أكبر نفسية وهي ترى الموت الوشيك والموت المحقق لزميلتها ايناس.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الإنساني، كيف يجرؤ مخلوق محسوب على الإنسانية أن يلاحق طفلتين في عمر الزهور بسيارته حتى يدوس عليهما بالعجلات؟ ومن يملك قلباً وأحاسيس ليدوس طفلة لم تكمل عامها السادس بعجلات سيارته، بل ويحاول دهس الثانية حتى الموت؟
فماذا ينم ذلك، وكيف تستطيع الإنسانية فهمه أن لم نقل تقبله، حتى في الحروب والمعارك الدامية كان هناك دائماً خانة ضيقة أو هامشاً محدوداً للإنسانية، هذا ما سجلته كتب التاريخ والسير منذ عهد سبارتاكوس حتى الآن.
لكن الواضح أن البعض من المجتمع الإسرائيلي وتحديداً المستوطنون خارج هذا السياق الإنساني بالكامل.
ولنا في التاريخ عبر كثيرة، فعندما استطاع الفرنجة اقتحام أسوار القدس عام 1099م، وحسب رواية المؤرخ المستشرق البريطاني (ونسمان)، أستاذ التاريخ في جامعة استامبول في كتابه من جزءين (تاريخ الحروب الصليبية)، يعترف ويقر بالمذبحة التي نفذها الغزة الأوروبيون عندما كسبوا المعركة حيث احتمى سكان بيت المقدس بساحات المسجد الأقصى وكان عددهم يفوق السبعين ألفاً، فما كان من الغزاة إلا أن قاموا بذبحهم جميعاً عن بكرة أبيهم، يصف المؤرخ البريطاني ونسمان المذبحة بدقة متناهية حتى يصل إلى القول أن الدماء وصلت إلى ركب الخيل؟!
الوازع الديني والأخلاقي والإنساني يشكل رادعاً طبيعياً كي لا تتحول النفس البشرية إلى وحش، وعندما تخلو النفس البشرية من كل تلك القيم تصبح أكثر وحشية من حيوانات الغاب، بل أن الحيوان أكثر رأفة بفريسته لأنه يقوم بقتلها فوراً تمهيداً لالتهامها تدفعه غريزة الجوع، وتلك هي الطبيعة.
أما أن يقوم الإنسان بالقتل لمجرد القتل والتلذذ بذلك فهذا يخرج عن نطاق الإنسانية والأدهى والأمر أن يتم ذلك بحق طفلة أو طفل ليس لشيء اللهم فقط لأنها تمثل الطرف الآخر حسب رؤية القاتل.
قد يكون مبرراً أن يتم قتل أطفال ونساء ورجال أبرياء بقصف الطيران مثلاً أو بالقصف المدفعي، ولكن أن يجري استهداف ايناس وتولين وهما تحملان بعض الدفاتر والأقلام وزوادة الروضة، وبعد أن نالت كل منهما قبلة من الوالدة وهي تجهز ابنتها للذهاب إلى الروضة متمنية لها يوماً سعيداً فيما الأم تجهز نفسها للذهاب إلى موسم القطاف. بماذا كان يفكر ذلك الوحش الآدمي وهو يقود سيارته خارجاً من المستعمرة متلمظاً للعق الدم الفلسطيني؟
ومع كل ما حدث يجب أن نحتفظ دائماً بالتفوق الأخلاقي، واستطيع الجزم أن أي فلسطيني ومهما بلغت درجة كراهيته للاحتلال لن يقوم على هكذا فعلة.
وما فائدة الدين إذا لم يكن رادعاً لتحويل الإنسان إلى وحش؟ نؤمن أن من قتل نفساً بغير ذنب فكأنما قتل الناس جميعاً. ونؤمن أيضاً بأن حتى في الحروب هناك أخلاقيات وإنسانية، وعودة إلى حروب الفرنجة حين عاد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي ليحرر بيت المقدس عام 1187م، وهناك لم يمسس طفلاً أو امرأة أو و كنيسة وذهب به الحال إلى السماح لهم بالمغادرة لمن أراد بكل ثرواتهم ومتاعهم آمنين مطأنين؟
تلك هي أخلاقنا التي تربى عليها أجيال من العرب الذين هذبهم الإسلام وأثنى على العادات الجيدة كاكرام الضيف والعفو عند المقدرة.
المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي يعيش أزمة أخلاقية ما ترك آثارة على المجتمع الإسرائيلي بأسره فاتسعت دائرة التطرف واضمحلت دائرة الاعتدال، واعتلى الصفور المنصة السياسية، وبلغ التطرف والتعصب الديني مبلغاً بدأ يرى الآخرين (الغويم) مخلوقات صالحة للابادة الجماعية.
ايناس، تلك العصفورة الفلسطينية تراها والدتها تنتقل من غصن لآخر على الشجرة المباركة تحاكي ضحكتها غناء الشحارير.
ستكبر ايناس وتضرب جذورها في الأرض الطيبة أسوة بالزيتون الذي يبقى أخضر مهما تعاقبت الفصول، وسيبقى السفاح مضرجا بدمها وبالعار هو وأولاوده وزوجته ودولته التي ما انفكت تحرض على قتل الأطفال، أطفال فلسطين.