قيامة فلسطين- احمد دحبور
العنوان العام لهذه الزاوية، هو وراء الكلام، ولكن المناسبة المضيئة تنشئ انزياحا ضروريا في الصياغة فهي «مقدمة الكلام» ذلك ان حضور قيامة فلسطين ومشروع بعثها لا يقبل مرتبة اقل من ذلك.. وما زلت اذكر تلك اللحظة الذهبية النوعية، في الجزائر، يوم وقفنا على امشاط ارجلنا نحيي مشروع ميلاد دولة فلسطين كما اعلنها ياسر عرفات.. وفي مكان آخر، في تونس تحديدا، في ذلك البيت الصغير الدافئ، كانت اسرتي الصغيرة تستمع الى الاعلان ويوم نطق ابو عمار عبارة دولة فلسطين، وقف ابني الوحيد، وكان فتى في مقتبل العمر، فأمر امه ان تقف معه تحية لاعلان قيام دولة فلسطين.. وأكدت لي امه ان الفتى البريء كان يجهش ببكاء لا تفسير له وهو يهتف: دولة فلسطين، دولة فلسطين!!
والاكيد ان فتية كثيرين، بتعداد فتيان فلسطين قد وقفوا تلك الوقفة!! ويومها كتبت في زاويتي الاسبوعية، خاطرة بعنوان «حلم الدولة، دولة الحلم»، واليوم وقد جرت مياه كثيرة في انهار فلسطين ووديانها منذ ذلك اليوم النوعي من عام 1988، ارى اننا لانزال نقف على امشاط ارجلنا، ولسان حالنا ما حفظناه منذ الطفولة: فلسطين نادت فلبوا الندا..
على ان ما جرى في ذلك اليوم، ليس مجرد احتفال باعلان مشروع الدولة بل هو حجر الزاوية لمشروع بناء دولة الحلم القابل للتحقق.
والشيق المثير في هذه الذكرى، اننا استقبلناها بدموع حارة لا ادري اين كانت مخبأة، اذ هو تقليد فلسطيني عريق: ان نحيي الفرحة بالدمعة، فاذا هودجت عروس بكت الام، واذا عاد الغائب بكى المنتظرون وبكى العائد، واذا التم شمل الاسرة كان البكاء من شعائر مهرجان الفرح.. لكأننا ندخر هذا الدمع الحبيس في الروح لنرسله الى الحياة اعلانا عن الوجود..
ثم ماذا؟ تقول امهاتنا لمناسبات كهذه: طارت السكرة واتت الفكرة.. فسكرة الفرح تدهمنا للحظات، ثم نشرع في الاسئلة والحسابات.. وحساباتنا ليست معقدة اذ هي استفسار عن مصير الفرحة الطارئة، والبحث وجوديا عن الوسيلة التي تحيل الفرحة الى فرح وطني، لا سيما وان الناس البسطاء كان يحيي بعضهم بعضا في الشوارع واماكن التجمعات حيث العيد الوطني له منزلة عيد الاعياد، عيد قيامة فلسطين..
فقد اريد لهذا الجسم الوطني الشاسع، الذي اسمه فلسطين، ان يختفي او يموت.. ولكن العناد الفطري لهذا الشعب الاستثنائي امر بقيامة استثنائية، فالعائد غاب والميت قام، وليس الا ان نواصل الرحلة.. لقد سافرنا كثيرا، وتغربنا كثيرا، وضعنا كثيرا. وبقي ان نرد على هذا الكثير بالكثير من العناد والحياة والاقبال على الزمن..
انها لحظة مركبة محتشدة بالذكريات المرة والآمال الصعبة والاسئلة المتناسلة.. ولعلي اذكر مشهدا وانا في مقتبل العمر: كان زملائي يفرحون ويرقصون في عيد الوحدة بين سورية ومصر، وكنت اشاركهم الاحتفال طبعا، حتى قال لي زميل بريء: وانت مالك وهذا؟ انت فلسطيني.. ولم يكن الزميل مؤذيا او شريرا، لكنه سؤال عفوي جارح، واذكر تدخل استاذ العربي الذي تولى مهمة شرح معنى ان يفرح الفلسطيني بالمناسبات العربية، وكان مما قاله: ان كل اعيادنا الوطنية والقومية يجب ان تكون منذورة لفلسطين..
وهذا الاستاذ العربي الوفي، هو الذي وقف خطيبا في التلاميذ لاحدى المناسبات، وقد اسهب يومها في التعبير عن الجرح الفلسطيني، حتى فاضت عيناه بالدمع.. انني اذكر هذا المشهد وكأنه يحدث امامي الآن، وآمل ان يكون الاستاذ فرزات لا يزال على قيد الحياة فلعلي اراه ذات يوم واستذكر معه ذلك اليوم..
وبالاشارة الى هذا المعلم، وكثير غيره كانوا كذلك، تجدر الاشارة الى ان سورية العربية التي نشأت فيها، كانت دائما كذلك، ففلسطين حاضرة فيها مهما تتغير الانظمة او تتبدل الاحوال، وما احسب بقية الاقطار العربية الا شريكة لها في هذا الوعي وهذا الحس القومي، وقد خصصت سورية بالاشارة، وتحديدا مدينة حمص الحبيبة، لانني عشت فيها وتشكل وعيي فيها، بل اخذت الكثير من لهجتي العفوية منها.. ولا ازال حتى اليوم، استخدم عبارة «قيامة فلسطين» التي حفظتها عن ظهر قلب من الاستاذ فرزات الذي ارجو ان يكون حاضرا في هذه الحياة..
فعلى تلك الارض الطيبة درجت، ومنها تعلمت اناشيد الطفولة، وفي طليعتها ذلك النشيد الحماسي العذب: بلاد العرب اوطاني..
ولأن بلاد العرب اوطاني، فإن فلسطين هي العلامة الفارقة والجذر الروحي لهذه البلاد. وعلى هذا تكون قيامة فلسطين هي قيامة العرب جميعا.. فلقد عاركنا الموت والنفي والحرمان ومختلف اشكال الاستلاب، وظل الجوهر الصلب مضيئا في الروح ومبشرا بالحياة، وللمناسبة تحضرني صرخة شاعرنا الكبير محمود درويش يوم قال: تحيا الحياة.. وكان في ذلك يحيي فلسطين ووعودها وآمالها الكبيرة.. أفلا يحق لنا، والامر كذلك، ان نبارك لشعبنا، وللعالم كله، بقيامة فلسطين العصية على الغياب؟