المقهى والنفق- عدلي صادق
ربما أصبح لافتاً، تكرار إشارتي، كلما زرت القاهرة، الى مكان يتكثف فيه تاريخ المدينة. قبل نحو ربع القرن، فقدت القاهرة أبهى وأعرق عمائرها الحديثة، عندما أزيلت بناية "متاتيا" في ميدان العتبة، لكي يُتاح لنفق الأزهر، وهو يشق بطن الأرض التي فوقها كل شيء منذ أيام الفاطميين؛ أن يجد فتحته الى ميدان الأوبرا. وشجع على ذلك، أن شروخاً في الأساسات، أوقعها زلزال 1992. لم يكن في المدينة قبل "متاتيا" عمائر على الطراز الأوروبي. ما زلت أذكر المقهى الذي صمد أمام عاديات الزمن. جلست عليه طويلاً في زيارتي الأولى لسوق الكتب في سور الأزبكية، والمقهى يحمل اسم البناية "متاتيا" ويجاور مبنى البريد الآن، الذي يسمى تاريخياً "مركز البوسته". فما هي علاقة المبنى بالكتب وبالنفق؟
قبل الإجابة، أنوّه الى أن تسمية "متاتيا" جاءت في سياق كيدي بين مهندس ومهندس. الأول، وهو "هوسمان" الفرنسي صاحب الروائع المعمارية في باريس والقاهرة والجزائر وغيرها، الذي استعان به الخديوي اسماعيل، والثاني هو "متاتيا" الإيطالي الذي جاء به الخديوي بعد استغنائه عن خدمات "هوسمان". فهذا الثاني هو الذي صمم البناية وسماها باسمه تباهياً، وحمل المقهى الاسم نفسه!
كان "متاتيا" المقهى، هو برلمان الفكر والأدب والعلوم. في كل مساء، يجلس فيه جمال الدين الأفغاني حتى ساعة متأخرة قبل الفجر. كانت تتألف حوله، على هيئة نصف دائرة، كوكبة من رجال العلم، فيها الشيخ المعمم، واللغوي والشاعر، واستاذ الفلسفة والمنطق والتاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والكيمياء. يُلقي واحدهم السؤال على الأفغاني، فيجيب بلسان عربي لا يتلعثم، وبقريحة لا تعرف الكلل، ويظل يتدفق حتى يشتعل رأس الليل شيباً، فيقوم وينقد القائم على المقهى، حسابه عن كل الداخلين!
كانت أمتار قليلة، تفصل سور الكتب، عن موضع المقهى في واجهة البناية، وكلما اختلف الجالسون حول مسألة، احتكموا لكتاب على السور الساهر. يتناوب على المجلس رواد الفكر والأدب والسياسة، كالشيخ محمد عبده، اسحق أديب، عبد الله النديم، حافظ ابراهيم، أحمد شوقي، سعد زغلول، المازني والعقاد ومحمد تيمور مؤسس فن القصة القصيرة قبل ميخائيل نعيمة وصاحب قصة "رمضان في قهوة متاتيا" وغيرهم كثيرون. امتدت شهرة المجلس، الى البلدان العربية والإسلامية، وهُرع اليه، بعد الأفغاني، الثوريون ومناضلو الوطنيات، كالحبيب بورقيبة في شبابه، لأن الأفغاني جعل المقهى مدرسة ذات وجهة تحررية، علمت النخبة أن العثمانية ليست قدر الأمة، وإنما عنوان ظلامها. فمن "متاتيا" كانت تهب رياح ثورات، وظل هذا حال المقهى بعد أن ارتحل الأفغاني الى باريس، وخسر مجلسه و"النارجيلة" التي لم يكن ينقطع عن شفط دخانها في "متاتيا"، وينفث مع الدخان كلاماً صاعقاً.
اغتالت فتحة النفق المقهى. راح زمن الأول، وانفتح الثاني على مقاه أخرى، بعضها للتواصي على غرام، وبعضها الآخر لمن اختاروا غيبوبة النرد والورق أو التأمل الحزين. اختلط سور الأزبكية للكتب، بباعة البضائع الصينية الرديئة. زحام وكاسحات بسطات ورمال، تطارد في معية الشرطة، المتعدين على الشوارع والأرصفة.
في المقهى، قبل النفق، كان يجتمع المؤمنون والملحدون، والمعممون والمتعصرنون، والمسلمون والمسيحيون، والشعراء والمعماريون. بل إن بائع الفول و"الطعمية" الذي أمام المقهى، كان يهودياً. لم يكن واحد يسخر من الآخر، أو يقلل من حقه في الاحترام. فطالما إن الوطن واحد، لا انقسام للوجدان الوطني ولا احتراب مع الاختلاف. لم يكن ثمة مشروع للبغضاء لأن المستوطن هو الذي ينبغي أن يستغرق كل ضغينة. كأن الزحام اليوم، وهو المعادل الموضوعي للتيه والصخب واختلاط الأصوات. يفتش واحدنا في مشهد الحال الراهن، عن ذكرى لصفاء الروح ووضوح الوجهة. راحت "متاتيا" الأنموذج، فأين المقر والى اين المفر!
adlishaban@hotmail.com