"المتجول" فيلم استرالي.... بنكهة الصحراء - عمار جمهور
يحاول فيلم المتجول "ROVER" أن يسلط الضوء على هامش محدد من الواقع والبيئة الأسترالية، ونمط الحياة وطبيعتها لشريحة من المجتمع الأسترالي، التي تحيا وتمارس حياتها على الهامش الأسترالي "جغرافيًا". الفيلم الذي تدور أحداثه في البيئة الصحراوية الأسترالية يعد مكوناً هاماً في بنية السينما الأسترالية وتركيبتها، والتي تعاني من فتور إذا ما قورنت بالسينما العالمية "هوليوود، بليوود...إلخ".
الفيلم مستوحىً من واقع حياة شريحة مجتمعية تتمثل في عمال المناجم، الذين يسكنون الصحراء بحثاً عن مصدر رزق لهم، فالمناجم في أستراليا تعد مصدراً اقتصادياً وثروة طبيعية مهمة تعتمد الدولة عليها في تحريك عجلة اقتصادها الوطني، ومن تفاصيل الحياة الصحراوية نسج الفيلم قصته وحبكته، ففي الصحراء الأسترالية يوجد ما لا يمكن وصفه من تفاصيل حياتية لها ارتباطات إنسانية بالطبيعة، فالسكانُ الأصليون هناك يؤمنون بالروحانيات المرتبطة بالطبيعة " إله النهر، الشجر، الصخر، البحر، الصحراء،......إلخ " فالبيئة الصحراوية بالرغم من تشابهها إلا أنها غنية بالعناصر الجمالية والفريدة من نوعها، يزينها سكناها الأصليون بثقافتهم وتقاليدهم وطقوسهم، ويعمق تطورها الحضاري سكانها البيض بتفوقهم العلمي والتقني.
الفيلم الذي يتناول قصة شخص يدعى "اريك" يحاول استرجاع سيارته بعد أن قام ثلاث فتية بسرقتها خلال محاولتها الهروب من العدالة نتيجة لقتلهم لعدد من الجنود في إحدى القواعد العسكرية. حيث يترك أحدهم أخاه "رينولدز " مصاباً ويهرب لاعتقاده بأنه قد مات. وتدور الأحداث في قالب درامي غير متوقع حين يتحالف الأخ المصاب الذي كان يعتقد أنه مات مع صحاب السيارة المسروقة بطريقة قد تكون مغايرة للواقع الإنساني. وتبدأ تفاصيل الحبكة السينمائية بصورة درامية فاترة إلى حد ما.
ففي الوقت الذي يحاول "اريك" صاحب السيارة المسروقة استعاده سيارته، يخوض مغامرة "المتجول"، والذي يقوم ببطولته الفنان "جاي بيرس" في الصحراء الأسترالية، ويرافقه الفنان البريطاني "روبرت باتينسون" في دور الساذج "رينولدز" ويتشاركان في جولة صحراوية يقتلان خلاها العديد من الأشخاص ويلاقيان من المعاناة ومن المشاق ما يصعب وصفه أو تصوره، وذلك كله في سبيل استرداد سيارة "اريك" التي سرقها "هنري" خلال محاولته الهرب عقب جريمته بحق الجنود الاستراليين، والذي يقوم بدوره الفنان "سكوت مكنايرى" الذي ترك أخاه الساذج "رينولدز" مصاباً معتقداً انه مات في ساحة المعركة.
بدا للو لوهلة أولى للمشاهد بأن سبب مطاردة "اريك" لهنري يكمن في السيارة ذاتها "نوعها" قيمتها المادية"، ليتضح في نهاية الفيلم بأن المتجول جاب الصحراء برغم من قساوتها ليحافظ على رمزية تتمثل في استرجاع جثة كلبه الموجود في صندوق السيارة، فمشهدية تحريك عدسة الكاميرا باتجاه صندوق السيارة تعتبر أكثر لحظة تفاعلية ما بين المشهد السينمائي ذاته والمتلقي، لتظهر محاولة المتجول استخراج جثة كلبه بوفاء في الوقت الذي حرق جثة المجموعة الآدمية التي سرقت سيارته دون أدنى شعور بالذنب أو الخطيئة، فبالرغم من خيانة زوجته له، وبالرغم من استحقار النظام والمجتمع له - والذي ظهر في حواره مع الجندي لحظة أثناء التحقيق معه- إلا أنه يظهر تدفقاً هائلاً من المشاعر الإنسانية في أعماقه التي قد يكون من الصعب الوصول إليها في البيئة الصحراوية الصعبة.
يقدم الفيلم رسالة إنسانية سامية تتمثل بتسليط الضوء على تراجع القيم الإنسانية، وتراجع قيم الفرد في المجتمعات الهامشية. ففي الوقت الذي يترك الأخ "هنري" أخاه "رينولدز" جريحا ينزف دما ويهرب لينجو بفعلته، يقوم "اريك" بقتل العديد من الأشخاص ليستعيد جثة صديقه "الكلب". قتل الإنسان للإنسان، والذي جسده الفيلم على أنه قد يبدو عادياً يقابله إخلاص ووفاء في علاقة هذا الإنسان مع صديقه الحيوان. ومع ذلك كله، فإنني أعتقد بأن قيمة الفرد في المجتمع الأسترالي في ازدياد، فاحترام الإنسان وحقوقه، وحرية معتقداته، وحرية الرأي والتعبير كلها مكونات يحرص المجتمع الأسترالي على تعزيزها بالإضافة إلى تعميق التنوع الثقافي في المجتمع الاسترالي، والذي يؤمنون بأنه سبب مهمٌ لإغناء المجتمع الأسترالي بالخبرات المتنوعة.
أعتقد بأن الفيلم كمادة فنية وسينمائية نجح في إبراز العديد من العناصر المهمة في الثقافة الأسترالية وكانت الموسيقى التصويرية خير مثالٍ على ذلك، فحضور السكان الأصليين "الأبوريجينال" وثقافتهم وموسيقاهم وطابعهم في الفيلم كان طاغياً وواضحاً بصوره جلية، ولتساهم في تشكيل وتنميط الصورة المتخيلة عن أستراليا في ذهنية من يشاهد هذا الفيلم.
العناصر التي ركز عليها الفيلم هي ذاتها التي انغرست فيّ خلال رحلتي العلمية في استراليا الغربية وحتى بعد هذه الرحلة، والتي كانت تزخر بصورة السكان الأصليين وتراثهم وموسيقاهم في الشوارع العامة، والتي لها مدلولات روحانية تناجي الطبيعة الخلابة وتتفاعل معها، بالإضافة إلى الانطباع عن عمال المناجم وخاصة عندما يعدون من رحلاتهم في الصحراء إلى مراكز المدن محملين بآلاف الدولارات في أسابيع معدودة.
تجسيد البيئة الصحراوية كان مذهلاً بالنسبة لي، وذلك بسبب خوفي المستمر منها، وخاصة من أولئك الذين قطعوا عمق الصحراء الأسترالية "من سدني، إلى بيرث" وتلك الروايات المرعبة التي كانت تصادفه أو قد تصادفهم في رحلتهم الموحشة، ولكن الفيلم ركز على جانب هامشي من المجتمع الأسترالي، وكذلك أبرز عنصراً بيئياً واحداً من البيئة الأسترالية الأخّاذة، فالقارة الأسترالية ليست صحراء بالرغم من أن نسبة الصحراء كبيرة، ولكنها بيئة خلابة بسهولها وجبالها وبحيراتها ومتنزهاتها وجزرها، وهذا ما لم يظهره الفيلم ليوحي للمتلقي بأن أستراليا صحراء قاحلة وبأن سكانها مجرمون، وهذا ليس دقيقاً وأن كان يحتمل جزءًا من الحقيقة.
قدم الفيلم رسالة إنسانية وقيمة ثقافية وفنية عن مجتمع غني ببيئته وبتنوعه الثقافي والعرقي، وشد انتباه المجتمع الأسترالي إلى ضرورة الحفاظ على قيمة الأسترالي كإنسان سواء كان جندياً، أو طفلاً، أو حتى مجرماً.