بربارة الشهيدة.. الذكرى.. والعيد.. والحلوى
يـزن طـه
قتلت لأنها آمنت بالمسيح، ودفنت في بقعة؛ تحتضن بين ظهرانيها ثالث أقدم الكنائس في فلسطين، وبات يوم استشهادها يوم عيد، تقام فيه الصلوات، وتحضر فيه المأكولات، إحياء لذكراها، ومزارها كان هدفا لاعتداءات الاحتلال كذلك.
إنها القديسة 'بربارة' تلك التي قتلها الرومان في القرن الثالث الميلادي، أيام كان الإيمان بالمسيح أمراً محظوراً في الإمبراطورية الرومانية، تلك القديسة التي هربت من وجه مضطهديها حطت بها الرحال في قرية عابود، الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله، على الطريق القديم بين رأس العين والقدس، هناك حيث تمكن الرومان منها وقتلوها في مكان بات ديرا ومزارا لأهالي عابود، والمناطق المجاورة.
ودرجت العادة على إقامة عيد القديسة بربارة في الرابع من كانون الأول حسب التقويم الشرقي اليولياني، الذي يوافق السابع عشر منه وفق التقويم الميلادي، حيث تنطلق مسيرة من بعد ظهر السادس عشر من كانون الأول من كنيسة رقاد العذراء التاريخية للروم الأرثوذكس إلى دير القديسة بربارة الأثري، غرب القرية.
القديسة بربارة، شهيدة رفض الظلم والاضطهاد
وتلقّت القديسة بربارة العلوم من بيان وتاريخ وفلسفة مما قادها إلى التأمل في الخليقة والبحث عن الخالق، وأدركت خواء الأصنام وضلال عبادتها. فآمنت بالمسيح. ولما اكتشف أبوها أنها صارت مسيحية جُنّ جنونه، فشهّر سيفه وهمّ لقتلها، إلا أنها هربت إلى تلة إلى الغرب من عابود، حيث الآن كنيسة القديسة بربارة، طالبة العون من الله، الذي استجاب لها فاقتبلتها صخرة في الجبل انشقّت إلى قسمين بفعل إلهي، لكي تخفيها عن أنظار أبيها الدموي؛ وهذه الصخرة لا زالت ماثلة للعيان إلى يومنا هذا، وهي نفسها الكهف الأوسط، واحد من مجموعة الكهوف التي تقع أسفل كنيسة القديسة بربارة، وهو عبارة عن تجويف صخري طبيعي. لكن أبيها استمر في البحث عنها، وعندما وجدها ضربها دون شفقة، ثم سلّمها إلى الحاكم مكسيميانوس الذي حاول أن يستعيدها للوثنية لكنها أبت، فكان السجن والعذاب مجددا من نصيبها، وقد أبى والدها إلا أن يكون هو نفسه جلادها، فقطع رأسها بالسيف، وكان ذلك حيث كنيستها اليوم.
حلوى البربارة
تدب الحركة في كل بيت من بيوت عابود، التي يقسم سكانها إلى نصفين، مسلم ومسيحي، يتعايشون دون تفريق أو تمييز بينهم، تحضيرا لعيد القديسة بربارة. قمح مقشر يسلق على نار هادئة، ولوز وزبيب وجوز هند وسكر، تنتظر دورها لتخلط مع القمح، والنتيجة قدر من حلوى 'البربارة'.
لا يخلو بيت في عابود من هذه الحلوى في ليلة عيد القديسة بربارة، تعدها النسوة نهارا في بيوتهن، أو في قاعة تابعة لكنيسة الروم الأرثوذكس في القرية، في انتظار الانتهاء من المسيرة السنوية إلى مزارها، وتجمع الحاضرين في القاعة لتناول حلوى العيد.
ويذكر التقليد أن القديسة بربارة وهي هاربة من وجه أبيها الذي كان يضطهدها بسبب إيمانها بالمسيحية، أبصرت امرأة فقيرة تسلق حجارة لأولادها لكي توهمهم أنها تعِدّ لهم الأكل. فأخذت القديسة بربارة حفنة قمح من إحدى الباعة ووضعتها مكان الحجارة، فتكاثر القمح حتى لم يسع الإناء كثرته، فوُزّعته على الفقراء.
ويُذكَر في تقليد آخر أن القديسة بربارة وهي هاربة في البراري من وجه أبيها، أُنهِكَت قواها ووقعت على وجه أرض مزروعة قمحا، فتدخلّت العناية الإلهية وأنمت القمح فارتفع عن قامة القديسة بربارة مخفيا إياها من وجه أبيها. لذلك يجتمع المؤمنون في عيدها ويتناولون القمح المسلوق تذكارا لها.
ويعد القمح المسلوق في تراث الكنيسة الأرثوذكسية رمزا للقيامة، حيث قال السيّد المسيح: 'الحق، الحق أقول لكم: إن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير'.
قداس تقليدي في أقدم الكنائس
على عكس الهدوء الذي يسود أجواء القرية عموما، تعج ساحة الكنيسة بالحياة، في انتظار أن يبدأ قداس العيد. يتقدم المطران ثيوفانس ممثل غبطة البطريرك الأورشليمي ورئيس دير القديسة حنة في القدس ميلاتيوس بصل، والأب عمانوئيل عواد راعي كنيسة رقاد العذراء للروم الأرثوذكس لبدء القداس في الكنيسة، حيث يتوافد المؤمنون لحضوره.
همس أحدهم في أذني وقال: 'في القداس في ناس لاتين وفي ناس روم أرثوذكس، من زمان في البلد في توحيد في هذا العيد'.
كنيسة رقاد العذراء هي ثالث كنيسة بنيت في فلسطين، بعد كنيسة المهد في بيت لحم والقيامة في القدس، وفيها أعمدة وحجارة من بنائها الأول، في القرن الثالث الميلادي، وهناك حجر يعود إلى القرن الحادي عشر للميلاد مكتوب باللغة الآرامية باللهجة الفلسطينية، وهو يشير إلى عملية الترميم الأولى التي شهدتها الكنيسة.
مسيرة تقليدية إلى كنيسة القديسة بربارة
تليت الصلوات وانتهى المصلون من صلاتهم، تأهبوا بعد ذلك للصعود إلى تلة القديسة بربارة، على بعد نحو كيلو متر واحد من موقع الكنيسة، إلى الغرب من القرية. سيرا على الأقدام، يتقدمهم أطفال يحملون الصلبان، ورجال الدين إلى التلة.
يرددون التراتيل طوال الطريق الترابي، الذي عمد المجلس القروي لفتحه مؤخرا، تسهيلا على المؤمنين للوصول إلى الدير، عوضا عن قطع المسافة بين أشجار الزيتون والأرض الوعرة.
على التلة؛ مكان الدير أو الكنيسة، دير القديسة بربارة، الواقع إلى جانب الطريق الرومانية القديمة التي كانت تصل القدس برأس العين. يعود إنشاء الكنيسة، حسب رأي بعض علماء الآثار، إلى القرن السادس الميلادي، ولكن التراث المتناقل يعتقد أنها ذات جذور بيزنطية، تعود إلى القرن الرابع الميلادي.
الكنيسة بناء متكامل، يتكون من ثلاث غرف، الغرفة الوسطى فيها كنيسة مستطيلة الشكل، لم يبقَ منها سوى الأساسات وهي مدفونة بالتراب. بالإضافة إلى نوعين من الأرضيات الفسيفسائية. وهناك في أسفل الكنيسة مجموعة من الكهوف.
هناك قدم الأب ميلاتيوس بصل عظة صغيرة، تتحدث عن الدير، وعن العيد وعن ذكرى القديسة بربارة، وعن المحبة والسلام، وعن الأرض وضرورة الارتباط فيها.
وللكنيسة قصة مع الاحتلال الإسرائيلي، رواها لنا رئيس المجلس القروي يوسف مسعد، وهي كغيرها كباقي أراضي ومواقع القرية، حيث صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مدار ثلاثين عاماً أكثر من 5 آلاف دونم، لصالح الاستيطان وجدار الفصل العنصري، وفجرت قوات الاحتلال الكنيسة، بحجة أن الكنيسة مجمع 'للإرهابيين'، يوم 31 أيار من عام 2002، نحو الساعة السادسة مساء، وتم ترميمها بعد 6 أشهر من تفجيرها، بناء على تعليمات من الرئيس الشهيد ياسر عرفات.
بعد الانتهاء من مسيرة العيد، يعود الجميع، على هيأتهم في الذهاب، إلى حيث قاعة الكنيسة، هناك حيث مزار الميلاد، والحلوى التي تنتظر، يوزعون حلوى 'البربارة'، ويتبادلون التهنئة بالعيد، وتعرض بعض النسوة والجمعيات مطرزات تقليدية ومأكولات شعبية للبيع.
ورغم مرور قرون على استشهادها؛ تبقى بربارة عاملا موحدا، ومزارا يرتاده المؤمنون، وعيدا يتوحد فيه الجميع، يستذكرون فيه قصة شهيدة ماتت رفضا للظلم والاضطهاد.