"أنا لغتي"
بهذا المعنى (الفلسطيني في خصوصيته الواقعية) الذي يشير إلى الانتماء والهوية، والذي جاء به شاعرنا الكبير محمود درويش في واحد من نصوصه الأخاذة، نفتتح الاحتفاء باللغة العربية، في يومها العالمي -هذا اليوم- الذي أقرته الأمم المتحدة. وإنه المعنى الإنساني أيضًا، الذي لا يؤكد على الهوية فحسب، بل وعلى العلاقة الوطيدة بين اللغة والتجسد الواقعي لصاحبها وحاملها، اسمًا وعبارة وحلمًا وتطلعًا، وحتى منتديات أسئلة وجودية..!!
و "أنا لغتي" في الموقف الوطني والقومي والإنساني، وفي حضوري المعرفي والحضاري والتاريخي، ومثلما كتب محمود درويش "تقولني الكلمات وأقولها"، أنا معلقاتها، حين يتنور التاريخ البشري بالجماليات، هي التي تحمل روايتي وأنا الذي أرويها.
واللغة نهر ومصب، حقل وبيت، وعلم ودلالة، والعربية بحرفها الذي هو ثيمة الاحتفاء باللغة العربية في يومها العالمي هذا العام، هو حرف القدرة بنص الوحي المنزل من فوق سبع سموات "إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون". وقال علماء الدين إن الله العلي العظيم أول ما خلق، خلق القلم، وجاء في التنزيل الحكيم: "نون، والقلم وما يسطرون".
والحرف العربي هو أيضًا حرف التعطف والحنو في صورته، وحرف القلب في صوته وأحلامه، وحرف العقل في تنوره، وحرف الروح في تصوفه وحكمته، وله في التجنيس ما يشاء من مجاز وتنويع، حروف للعطف، ونون للنسوة، وتاء للتأنيث، وجمع للمذكر، وآخر للمؤنث، ثم هناك "حتى" التي مات علماء النحو والصرف، البصريون والكوفيون، وفي أنفسهم شيء منها..!!
وهل تعلمون أن هناك آلاف الكلمات في اللغات الإنجليزية والإسبانية، أصلها عربي تمامًا، بمعنى أن اللغة العربية كانت يومًا لغة إمبراطورية، والأهم أنها كانت وما زالت لغة حية، تقبل بالتلاقح الحضاري، وترضى بالتمصلح الحداثوي، إذا ما صح التعبير، غير أنه لا بد من أن نؤكد هنا أن "العربية" تتعرض اليوم لحملات تشويه منوعة، بعضها بقصدية مدروسة، وأخرى نتيجة الجهل والاستسهال برغباته العجولة، خاصة في بعض لوحات الإعلان التجاري، وفي بعض نشرات الأخبار المسموعة والمرئية، والأخطر في العديد من النصوص المكتوبة، سواء الورقية أو الإلكترونية. وإلى حد موجع، غاب المدقق اللغوي في الكثير من المحطات والمواقع، وغابت الرقابة المعنية بسلامة اللغة، السلامة التي ضرورتها ليست جمالية وفنية فحسب، بل ومن أجل الحفاظ على الهوية والتاريخ.
نذكر هنا أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كان يجلد من يخطئ في الحديث أمامه بالنحو والصرف خمسين جلدة. لا نبحث عن عقاب من هذا النوع في هذا العصر، ولكننا نطمح لتشريع قانوني يلزم احترام اللغة ويمنع تشويه صورتها وصوتها وبنيتها النحوية، لتكون مثل أغنية هي في الخطاب الوطني الفلسطيني أغنية الحرية.
سلامًا لغتي في يومك العالمي، سلامًا لنصك الفلسطيني في تجلياته الإبداعية شعرًا وسردًا ونثرًا، سلامًا لنصك في الإرادة الفلسطينية الحرة، في خطاب الحق والحقيقة، خطاب السلم والتطلع الإنساني لعالم أجمل دونما احتلال ولا عدوان، سلامًا لخطاب الشرعية الميزان.. سلامًا.
كلمة الحياة الجديدة - رئيس التحرير