زياد ابو عين والنصب التذكاري - احمد دحبور
لم نكد نستوعب النبأ حتى قام النصب التذكاري، وهو امر طبيعي وتلقائي من هذا الشعب المجرب المحترف، فقد استشهد زياد ابو عين على مرأى من عيون فلسطين، وعلى الفور سارع شعبه الى تخليد ذكراه، الخالدة اصلا، باقامة نصب تذكاري لهذه القامة الفلسطينية الفارهة.
انه لامر ذو دلالة، ان تتشكل مؤسسة لشهداء فلسطين، مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، بمعنى ان هذا الشعب المثخن بالجراح والمثقل بالامل، يعي خطورة اللحظة التاريخية التي وجد نفسه في القلب منها، فان تندرج في سلك الثورة، يعني ان تنتسب الى اسرة الشهداء لا بالمعنى العدمي الذي يرشح الفدائي للاستشهاد بالضرورة ولكنها الرحلة الوعرة بين احلام التحرير وألغام المسير، ولعلي شأن عشرات آلاف الفلسطينيين، وقفت طويلا عند الانتساب الى حالة ذات مؤسسات مشتبكة مع الحدث، وفي طليعة هذه المؤسسات تلك الخاصة بالشهداء والجرحى والاسرى، ومن ينتظرون وما بدلوا تبديلا..
لقد كانت من اهم الخلاصات التي طلع بها شاعر فلسطين الخالد محمود درويش اننا نحب الحياة ما استطعنا اليها سبيلا، وان تجاهر بحب الحياة انك راض بالاحتمالات الدامية كافة، بما فيها لحظة الشهادة، ودعونا نسارع الى الاعتراف بأن سقوط اي شهيد بيننا، انما هو مناسبة للألم والجراح بقدر ما هو مدعاة للفخر والعناد.. فلسنا - كما روج العدو الصهيوني طويلا - هواة موت ودعاة غياب، بل ان الشهيد يغيب ليؤكد حضوره الارقى وعبوره للزمن، ذلكم هو قدر الفلسطينيين ومحرك وجودهم، ومفجر فاعليتهم بما هي شرارة تشعل السهل، وانها للحظة وجودية مركبة: ان تتعلق بالحياة الى حد الذهاب راضيا الى الاستشهاد، ويحضرني لهذه المناسبة تعبير مشهور صدر عن الصديق الشاعر خالد ابي خالد، يوم وصف لحظة الاندراج في المقاومة بأنها «الرحيل في اتجاه العودة»!.. فهذه المخاضة الاليمية وعبورها التراجيدي، وفكرتها المبدئية، انما هي لحظة زواج فذ بين الاستشهاد والعودة، وما حركة زياد ابي عين، ومجمل كوكبة الشهداء، غير تأكيد لهذه العلاقة بين الذهاب والاياب، حتى لتصبح العودة كلمة سحرية يحق لشعبنا الفلسطيني ان يزهو بها ما دامت قد اصبحت من اسمائه وعلاماته الفارقة..
ومن قال اننا لا نحزن على الشهداء؟ لقد وجدنا انفسنا تاريخيا في مفترق شائك بين الحياة التي نعيشها ما استطعنا اليها سبيلا، وبين الشهادة بما هي حياة معنوية بقدر ما فيها من آلام وفقدان وعناد..
اذكر - وكيف انسى؟ - اني تعرضت لحادث كاد يودي بي في بداية التحاقي بهذه المسيرة. ويوم كنت اظن جسدي عالقا بين الحياة والشهادة، كتبت قصيدة اقول فيها:
من غاب لتحضر كل ملامحه ما غاب..
ولم اغب يومها فقد كان لي - حسب خطاب امي - ماء لم اشربه بعد، وهواء لم استنشقه بعد، ولقد عشت حتى شربت ماء كثيرا، بل انني نعمت باستنشاق هواء حيفا، فاذا بهواء فلسطين جميعه من هواء حيفا فهل من مزيد؟
وها هو زياد ابو عين وحوله من قبل ومن بعد، كوكبة من الفرسان الظافرين بنعمة ذلك الهواء.
فنبكيهم لاننا بشر، ولا نكف عن الالتحاق بمسيرتهم لاننا بشر ايضا! فان تكون فلسطينيا يعني انك من مواليد الحلم المدجج بالخطر، ونحن - وان كنا ابناء الحياة - يحدث ان نصطدم بما يعيق الحياة احيانا، ولكن بهدف ان نحيا، حتى ليحق لاطفالنا ان يرددوا معنا، امس وغدا والى دهر الداهرين: تحيا فلسطين..
ولان الحديث يجر الحديث، كما يقال فقد استحضر لحظة استثنائية من احدى روايات مبدعتنا النابلسية سحر خليفة، تطلق فيها العنان لام الشهيد ان «تتشاجر» مع فلسطين هذه الغولة - على حد تعبير سحر - التي تأكل ابناءنا، وقد اضيف بانه لفاجع الى حد بعيد ان نفقد الابناء والاحباب، ومن يدري فقد نلحق بهم في لحظة تاريخية متوترة، لكن هذه التي تأخذهم ليست الغولة بل رحابة الحلم وبذرة العناد وفكرة الامل المشفوع بحق لا يضيع ووراءه مطالب..
وفي لحظة استيعاب هذه الحقيقة مباشرة يحيا زياد ابو عين، وكل زياد من احمد شريح - اول شهداء مخيمنا الصغير في حمص - الى الشهيد الذي سيرتقي اثناء ترداد هذه الكلمات، وليس هذا كلاما «وطنيا» بالمعنى الخطابي المتداول، بل هو كلام اللحظة الوجودية التي وجدنا انفسنا في محرقتها.. والا فهاتوا لي فلسطينيا واحدا لم يفقد شهيدا او اكثر في هذه المطحنة التي تليق بصنع تاريخ كامل من البشر والشجر والحجر، وهل اضيف جديدا اذا تذكرت يوم خروجنا لتشييع اول شهداء مخيمنا، حيث كان التقليد يقضي ان يقف اهل الشهيد على حافة الضريح ليستقبلوا جموع المعزين، وها انذا استعيد المشهد كأنه امامي: فقد سارع احد المشيعين الى الوقوف في صف الجماعة التي تستقبل المعزين، وبحركة عفوية غير محسوبة هرع المشيعون جميعا الى صفوف من يستقبلون العزاء.. كان ذلك في مدينة حمص في يوم هارب من الصيف - حسب التعبير الفلسطيني- واذا بالفلسطينيين الذين كانوا هناك جميعا، يصطفون لاستقبال المعزين، فيما تدفق اشقاؤنا من اهالي حمص ليواسونا، ولم يكتفوا بل ان من قدم العزاء وقف في صفوف من يستقبلون العزاء.. وهكذا تحول الشهيد الترشحاني كامل حمود الى فقيد حمص وشهيدها في يوم لا يغيب عن الذاكرة..
ومرة ثانية، لم تكن تلك مجرد لحظة حماسية تستدعي نخوة وطنية مرتجلة، بل هو الامتداد العضوي بين الجسد واطرافه، كان ذلك في احد ايام شباط من العام 1969، ولكن حمص العدية نسبته الى صيف استثنائي، ما احسب الا ان المدينة تذكره الى يوم الناس هذا..
اليس هذا ما فعله زياد ابو عين تماما، حين جمع الفلسطينيين، من اهله المقربين الى عابري الطريق، ليحتشدوا في خضم زفافه التراجيدي، فالمعزي انا والمعزى انا، وتلك دورة الحياة الفلسطينية.
والآن، فيما ترتفع جدران النصب التذكاري، لتحرس مقام الشهيد زياد ابي عين، ترتفع ابصارنا نحو القدس التي - لامر ما - نراها عالية كما يليق بها العلو والارتفاع، وكما كان الامر مع اول شهيد نشيعه او نلتف حول ذكراه، فإن الايدي تمتد مجتمعة لتصافح المعزين او تتقبل العزاء.. ووسط التحام هذا الجسد الجمعي تقول فلسطين الخالدة كلمتها الشعبية الخالدة: يا شهيد ارتاح ارتاح واحنا بنكمل كفاح.. وها نحن على الطريق، تغبطنا الوعود والآمال الكبيرة فلا يضيع حق ونحن اصحاب هذا الحق، اما الطفل ابن العاشرة، فهو يهتف بنا: ثورة حتى النصر.. وانها لكذلك.