نعم،الحق يُؤخَذْ والصَّح يَعلُو - آصف قزموز
شهدت السنوات الأخيرة من عمر الربيع العربي الغاير والمقصوف، مفارقات ومقاربات كثيرة تستحق الانتباه، حيث ما زال الوسط المحيط بفلسطين يغلي كالبركان وفوق صفيح ساخن بنيران الطائفية والعرقية والجرائمية المتدعشة باسم الدين. لكن ظلت فلسطين صامدة في وجه كل هذا الخضم الهائج، فسجلت جملةً من المآثر في التسامح الديني والسياسي الذي استطاع النأي بنا بعيداً نحو شاطئ الأمان والسلم الاجتماعي.
كيف لا ونحن نشهد بأم أعيننا وعيون العالم أجمع، حالة التآخي الإسلامي المسيحي، والتسامح الديني في فلسطين المحتلة، التي هي أوهن من بيت العنكبوت مقارنة بالكيانات والدول المحيطة، لتشكل حالة السمو هذه، رداً صافعاً على إسلاموية داعش والدعوشة الخارجة عن القانون ومكارم أخلاق الأديان السماوية ومنطق الدين الحنيف، عبر إغراق الناس والمجتمعات في الفتاوى الباطلة والفتن الضلالية مثل فتاوى جهاد النكاح ونكاح الجهاد، أو فتاوى جواز نكاح الزوجة وهي ميتة، وجواز إرضاع الزميل....الخ، على نحوٍ وضيع أسهم بشكل خطير في تجريد الإنسان من إنسانيته وتحويله لحالة جنسية هي في حقيقة الأمر مؤشر إدانة لحالة الكبت الجنسي التي يعيشها هؤلاء المتأسلمون الغارقون بالزور والبهتان حتى الأذنين.
حالة التآخي المسيحي الإسلامي في فلسطين تتجاوز اليوم حدود مربع الأديان، وتتماهى مع مربع السياسة الوطنية غير البعيد أصلاً عن هذا المربع، مشكلةً نواة حافظة للوحدة الوطنية والمجتمعية، وهو ما شهدناه وعبر عنه قيام الأخوة المسيحيين في فلسطين بإطفاء شجرة عيد الميلاد لمدة ثلاثة أيام تمجيداً لروح الشهيد الوزير زياد أبو عين، الذي شكل باستشهاده سمواًّ وزهواًّ شخصياً ووطنياً، إذ بمقدار ما شكل استشهاد أبوعين خسارة وطنية وعائلية لذويه وشعبه، كان قد شكل بالمقابل حالة حراك سياسي وطني وتضامني دولي لصالح التعاطف مع شعبنا في معركة القرار الفلسطيني الذاهب لمجلس الأمن لإقرار قيام الدولة وإنهاء الاحتلال، جاعلاً من استشهاده فرصة وطنية وحدوية في إطار الضارة النافعة.
نعم يا سادتي، الكل مطالب اليوم بالتمسك بالعروة الوثقى بين الأديان والشرائح الاجتماعية، وعدم فقدان بوصلة التآخي والتسامح بين مكونات المجتمع الدينية والسياسية والاجتماعية عموماً. فالتآخي الإسلامي المسيحي يشكل اليوم أحد أهم المصدات والحصون الحامية لوحدة شعبنا الوطنية والديمغرافية.
كيف لا ونحن من شهدنا بالأمس القريب أبواب الكنائس في غزة تفتح أمام المسلمين لرفع الأذان وإقامة الصلاة فيها أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة. ولعلي لا أبتعد كثيراً إذا اعتبرت أن ما يجري في هذا الإطار على مستوى فلسطين يشكل محاكاة فعلية وتناغماً ليس بعيداً ولا معزولاً عن الأجواء التي خلقتها الإفطارات الرمضانية في الكنائس المصرية في لجة الصراع بين الثورة وجماعة الإخوان المضادة.
كل هذا وغيره الكثير نراه في فلسطين، وتتجلى أهميته الصارخة كونها تأتي في معمعان حرب كونية متلاطمة زاخرة بمعارك التفتيت والطائفية والإزاحات والإحلالات المَبْضَعية في البلدان المحيطة، عبر هدم القديم وطمسه وإحلال الجديد غير العارف لِخَمْسِهِ من طَمْسِهِ، وفلسطين اليوم خاضت معركتها من أجل إقامة دولتها في وقتٍ تغيب فيه دول عن خرائط الكون الأُوَلْ على بساط الكون الممول. فمن حق شعبنا أن يطالب بالدولة ومن حق الرئيس والقيادة التمسك بخوض هذه المعركة للحصول على القرار اللازم، ومن واجبنا أن نترك الرئيس يعمل ويختار التوقيت المناسب للتقدم أو التراجع، فالبعض منا في كل مرة يجعل من مسألة التوقيت في الذهاب لمجلس الأمن موعداً مقدساً وهدفاً أصم بحد ذاته بصرف النظر عن النتيجة المتأتية عن ذلك. فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن سلوكيات الحكومة الحالية المتطرفة في إسرائيل لا تشكل خدمة لسياستنا الفلسطينية الحالية المغبوطة دولياً ؟! ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أو يتجاهل حكمة الرئيس في الإعلان مبكراً عن استعداد القيادة الفلسطينية للاستمرار بالتشاور حول مشروع القرار بانفتاح مع جميع الأطراف، بهدف التوصل لأوسع توافق عليه قبل التصويت عليه، وهذا لم يُضرْنا كفلسطينيين بمقدار ما يعزز ويدعم موقفنا أكثر، ولا أظن وطنياً منا كان يرغب بالاستعجال للحصول على الفشل في تمرير القرار سواء بالفيتو الأميركي أو بغيره انطلاقاً من هاجس الإصرار على توقيت وحشد غير مضمون النتائج. ومع كل هذا، هناك من يعتقد بأن ما يجري من حراك داخل إسرائيل يؤشر لتغيرات واصطفافات جديدة قد تفرزها الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، ربما تجعل من إمكانية التربص الفلسطيني بفرصةٍ أخرى تضعنا على أقرب نقطة من سقف الحد الأدنى، أمراً وارداً وموقفاً وازناً، آخذين بالاعتبار أن تصادمنا مع "الفيتو" الأميركي وحدنا سيخدم بلا شك نتنياهو ويضر بخصومه، وحتى لو فشلنا بالتفاف دولي معنا أفضل من التفرد بالفشل وحدنا مثل كل مرة. لكن في النهاية كان لا بد للقيادة أن تختار، وفي كلتا الحالتين اجتهاد ومغامرة.
لكن الطريقة المرتبكة والمتشابكة للتوجه الفلسطيني الرسمي، والتي تسببت بها التخالفات السياسية الداخلية قد أدت لإرباك حتى أصدقائنا، الأمر الذي شكل سبباً وجيهاً في الإخفاق، وهذا لا يعني مطلقاً عدم عدالة المطلب، وإنما حالة الإرباك في التوجه والتوقيت الذي أثار الحفائظ والجدل، ما يضع على عاتقنا مسؤولية التوجه الفوري لتصويب الطريق المرتبك وتأكيد عدالة التوجه الدولي الجديد المؤازر للحق الفلسطيني، بحيث يتركز جهدنا للحفاظ على هذا التوجه لخدمة وتطوير هذا الحراك الدولي عبر المنابر والمؤسسات الدولية المعززة لاستمرار نمو هذا الحراك وحسب، لا سيما في ظل تراجيديا رد الفعل الإسرائيلي والدولي الذي يستعر الآن ضدنا، وتحول ليصب في تعزيز موقف نتنياهو، خصوصاً بعدما وصل الأمر حداً جعل اليسار واليمين الإسرائيلي يتقاطعان في موقف واحد في التهديد والوعيد، طبعاً الكل في الفَلَقَة لأن محكمة الجنايات لن تفرق بين يسار ويمين عند لحظة الحقيقة.
فالرئيس موثوق ويحمل حرصاً وطنياً عالياً وشفافاً لا فصال فيه، للنجاح بمعركته التي هي معركة كل الشعب الفلسطيني، وما كان للمختلفين مع التوجه الرسمي أن يستعجلوا المعارك الجانبية التي أربكت المشهد، والاختلاف على جلد الدب قبل اصطياده كما في كل مرة. ولعمري إني لا أكتشف الماء الساخن ولا اختراع الدولاب، إذا قلت أو اعتقدت بأن مرور القرار بدعم دولي سالماً بالصيغة الفرنسية الأولى، أفضل مليون مرة من الإصرار على التعديل بصيغة ترضي الفلسطينيين وحدهم وتجهضهم وقرارهم بالفيتو أو بغيره، لأنه ليس الفلسطينيون هم من سيصوتون، وكان يمكن أن تدعوا الرئيس يعمل في إطار العقلانية السياسية التي رسمها، وتدعوا الخلاف والتخالف في هكذا لحظة سياسية لمعسكر الخصم جانباً ولو مرة، نعم، لأنه الواضح والحريص على ما نحرص والعارف بما نعرف وأكثر. وتذكروا أن الكثيرين من بين ظهرانينا ممن كانوا بالأمس يخالفون الشهيد ياسر عرفات ويشككون في وطنيته عالطالعة والنازلة وكل ما دق الكوز بالجرَّه لا بل وكانوا يخونونه في اليوم ألف مرة، هم ذاتهم الذين باتوا يقدسونه كبطل وطني وقومي وينادون به حين لا ينفع النداء.
ليحفظنا الله وإياكم من التكرار البائس لذات العشوائية المتسرعة في إطلاق الخلافات، إذ لا يجوز لأحد أن يستمر في تحديد مواقفه على أساس نظرية المؤامرة والتخوين، فلا يدركوا القيمة الحقيقية للقائد إلاَّ بعد فقده، ويندمون حين لا ينفع الندم. لكل هذا وغيره، أقول: دعوا الرئيس يعمل، لأن أياً منكم في مكانه ومقامه لن يستطيع أن يفعل غير الذي يفعله.