آن لواشنطن أن تتضاءل - عدلي صادق
لم يعد ممكناً العودة الى التفاوض بناء على وعود أميركية بتحسين المفاوضات من داخلها. فلا المفاوضات ستتحسن من الداخل، ولا هي تصلح في سياقها المتعثر، لأن تكون مرجعية نفسها مثلما يريد الأميركيون.
لم يعد هناك أدنى شك، في أن واشنطن لا ولن تصلح وسيطاً، إذ بات واضحاً لكل ذي بصر، أنها توظف انفرادها بموضوع المفاوضات، لحماية السياسات الإسرائيلية بصرف النظر عن وجهتها ومهما كان منطقها. فلا يهم أميركا شيء سوى تأمين ظروف عمل مواتية لأية حكومة إسرائيلية.
من المرجَّح أن تركز الدبلوماسية الأميركية خلال الأسابيع المقبلة، على امتصاص تداعيات انضمام فلسطين لميثاق روما، وأن تتقاسم واشنطن الأدوار مع تل أبيب. الثانية تضغط بتدابير احتلالية حقيرة، والثانية تتدخل لكي تجري الأمور كالمعتاد، مقابل إفراغ عضوية فلسطين في الجنايات الدولية وغيرها، من كل محتوى ذي علاقة بملاحقة المجرمين والقتلة الإسرائيليين!
منذ الآن، ينبغي اعتماد تغيير في طريقة التعاطي مع الإدارة الأميركية، بحيث لا نتقبل دوراً منفرداً لهم، بعد أن سجلوا الفشل تلو الآخر، ولم يكونوا أمناء مع أنفسهم، وأصروا على التعامي عن الأسباب الحقيقية لفشلهم. فقد آن لدورهم في المنطقة أن يسقط، وأن تسقط معه الفرضيات التي تقول إن أميركا هي القوة الأعظم القادرة على التأثير في سياسات الدول كافة. إن ما تبقى لأميركا من شكل القوة ومن مظهرها، هو ما يتيحه لها العرب من هوامش للحركة في أوطانهم، وما يجودون به عليها من شراكات اقتصادية وأمنية يمليها على الأنظمة إحساسها بالضعف والانكشاف. لكن نظرة واحدة وسريعة، على فشل المحاولات الأميركية منذ مؤتمر كامب ديفيد 2000 الى اليوم؛ تكفي لأن نقتنع بأن التي تنكشف هي الولايات المتحدة، ليس على مستوى العجز عن التأثير وحسب، وإنما عن على مستوى الأخذ بالحد الأدنى من المنطق ومن العدالة ومن الأخلاق، في التعاطي مع النزاعات الإقليمية.
خلال هذه الساعات، وربما لأيام، سيكون نتنياهو والذين معه، معنيين بتقديم عروض غضب مسرحية محملة بالتهديد والوعيد والخزعبلات. بعدها سيتدخل الأميركيون، تماماً مثلما يحدث في الأعمال المسرحية، عندما يتقمص الشرير ثوب الحكمة والواعظين. ستكون مقدمة السياق الدرامي، أن التوقيع على الانضمام للجنايات قد وقع، لكن الفأس لا ينبغي أن تقع في الرأس. فإن كان من الحماقة أن يحاول أي طرف تعطيل الأقدار، فإن من الحكمة طلب اللطف فيها. أي إن الوسيط الأميركي الذي لا يصلح لشيء ذي قيمة تاريخية؛ سيتدخل لتهدئة اللعب، ثم سيطرح صيغة لإفراغ الانضمام من أهداف الانضمام وفوائده، واستئناف التفاوض الذي يتحسن من داخله، وجعل التفاوض مرجعية نفسه ولا مرجعية أخرى له.
عندئذٍ، وإن أردنا النقاء والزين، فلا بد من منحى جديد، ستساعد علية عملية ترميم عاجلة للبنية السياسية الوطنية، تعطي البرهان الأكيد على أن الموقف مهما كان، ليس إلا انعكاساً للرأي العام الفلسطيني وللقوى التي تمثله في الأطر السياسية الحزبية والفصائلية كافة، وفي الأطر النقابية وفي منظمات المجتمع المدني.
كان الأميركيون يخادعوننا وهم يأخذوننا من صيغة تفاوض الى أخرى، بدءاً من كامب ديفيد، مروراً بـ صيغة "خارطة الطريق" ثم "أنابوليس" وصولاً الى صيغة التفاوض على "اتفاق رف" ثم تفاوض استكشافي في عمان، ثم التلويح بـ "اتفاقية إطار". وربما يفكرون في صيغة تفاوض بقرون الاستشعار!
لم يعد بالإمكان، الاستمرار في مسايرة واشنطن، لا سيما بعد أن استماتت في محاولة منع وصولنا الى محكمة دولية مرموقة تنظر في الجرائم بمنظار العدالة. وكيف تتعاطف الشعوب مع أميركا ضد داعش، بينما هي تستبسل لمنع وصول الضحايا الى محكمة دولية محترمة لكي تنصفهم من مجرمين أشد من الدواعش بلاءً؟!
لقد آن لواشنطن أن تعترف بفشلها، وآن لدورها أن يرتد الى الوراء في الإقليم. فلن يصلح الموقف العربي وأمرنا، ما لم تتضاءل واشنطن عندنا، الى الدرجة المتدنية التي وصلتها في أميركا اللاتينية. إن هذا هو ما تستحقه أما نتنياهو وعربدته فليست نهاية التاريخ!