الثلوج القادمة تفتح سجل الذكريات العتيقة
فتحت العاصفة الثلجية المتوقعة هذا الأسبوع، صفحات الذكريات العتيقة لرجال ونساء من محافظة طوباس عاصروا الثلجة الكبرى التي ضربت فلسطين في شباط عام 1950، وعمت المدن كلها.
وتتبعت الحلقة الحادية والعشرون من سلسلة 'أصوات من طوباس' لوزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية الحكايات التي تلتصق بذكريات المربي المتقاعد فالح محمود مساعيد، الذي كان في السادسة، ويقيم مع عائلته في خربة يرزا.
يقص: 'شاهدنا الثلوج على جبل جادر، وأغلقت الطرقات، وتغطت أشجار الخروب والسريس ونباتات البلان الشوكية بطبقة كبيرة من الثلج، وخرجنا للعب بالزائر الأبيض، ولم تذب الثلوج إلا بعد يومين، كما أكد لي والدي لاحقا'.
كان مساعيد يشاهد سلسلة جبال عجلون الأردنية ترتدي حلة بيضاء، دامت لوقت ليس بالقصير، فيما شاهد جبال الشيخ بوضوح هو ورفاقه. وممن يستقر في ذاكرته، كيف داهم البرد بيوت الشعر، وواجه المواطنون الثلج بإشعال النار.
ويروي: 'حين انتقلت للدراسة في لبنان بعد النكسة، كنت أشاهد معظم السنوات الثلوج تغطي المرتفعات العالية كجبل صنين وسلسلة الجبال الغربية الشاهقة، ووقتها أعود إلى طوباس وأتذكر ثلجة شباط عام 1950'.
ووفق الراوي، فإنه يربط الثلوج، التي تكررت عام 1992، بزيارة الملك الأردني عبد الله الأول لطوباس عام 1950، وما رافقها من تحضيرات وخيالة، حين رحب به سكرتير البلدية محمد إبراهيم مبسلط (أبو العفيف) بعبارة مشهورة 'لقد حل اليوم علينا سعدان، سعد بقدوم جلالتك، وسعد بسقوط الأمطار بعد عام من المحل'.
يقول مساعيد: كنت صغيرا، ورفعنا الكبار على أكتافهم لأشاهد الملك الضيف، ورأيت طعاما كثيرا وحلوى، لكنهم لم يسمحوا لي بمشاركتهم تناوله.
ويضيف: سمعنا من الكبار، ما حدث من انهيارات في جبل رأس الجسر بطوباس، أعقبت تساقط الثلوج، وأدت لضحايا. لكن الخسائر في المزروعات لم تكن كبيرة، واقتصرت على حقول البطاطا التي كان يزرعها والدي والفلاحون، ولم تكن هناك دفيئات بلاستيكية بالمرة، وكان على الخط باص يتيم وشاحنات قليلة جدا.
محرك وجنازة ولهو!
ويستعيد سليمان داوود العمري، المولود عام 1925 حكايته مع الثلج فيسرد: 'كنت في نابلس أصلح شاحنتي، وقد فك الميكانيكي الماتور (المحرك)، وبدأت الثلوج بالهطول، وتركناها وهربنا لطوباس، وكان الباص يسير ببطء شديد، خشية الانزلاق، وما أن وصلنا المدينة إلا وأقفلت الطرقات، وخرج الأطفال للعب، وشاهدنا الثلوج تغطي كل الجبال المحيطة بنا، وكان الجو شديد البرودة'.
يقول: حين عدنا بعد العاصفة لنابلس، شاهدت الماتور قد أنشطر نصفين بفعل الثلج والصقيع، ورأينا الأشجار التي تكسرت أغصانها أيضا.
وينثر الشاب أحمد سليم، ما رواه له والده عن سنة الثلجة، حين توفي في اليوم ذاته جده أحمد سالم دراغمة، ونصب المشيعون خيمة فوق القبر، لكن الثلوج أعادت هدمها مرارا، وبالكاد استطاعوا مواراة الجثمان الثرى في مقبرة الجسر، وسط البرد الشديد، وعادوا إلى بيوتهم بسرعة البرق.
ويسرد المربي المتقاعد فواز أديب الحسين، المولود عام 1945 ما يستقر في ذاكرة طفولته عن الزائر الأبيض: كنا نعيش في بيت قديم وسط طوباس، وأغلق الثلج الطرقات، ولم تستطع والدتي الوصول إلى الفرن لخبز العجين، ولا أنسى مشهد الثلج من نافذة البيت، حين تجمعت الثلوج كالهوابط الصخرية، التي التصقت بالنافذة لشدة البرد.
وبحسب الراوي، فقد خرج الأطفال للعب بالثلج، وتحولت الحارة إلى ساحة معركة، وأخذ الشبان والرجال يفتحون الطرقات بأدواتهم الزراعية البسيطة، وشاهدت الثلوج على المرتفعات المحيطة فترة طويلة حتى ذابت.
ويضيف الحسين الذي عمل في سلك التعليم 36 سنة في المدارس الحكومية، إن الأضرار التي حلت من الثلوج لم تكن كبيرة، لبساطة الحياة، وطبيعة النمط الزراعي، وتعاون الناس فيما بينهم لإصلاحها.
ثلج أبيض وذكريات سوداء!
وتنقل السبعيني محمد موسى عبد الجواد، بين صفحات رحلة الاقتلاع من الكفرين المجاورة لحيفا، والعيش تحت رحمة ثلوج الرابع من شباط عام 1950، والتي استمرت أربعة أيام متواصلة. يقول: كانت الثلوج تغطي غرفة منزلنا الوحيدة في بلدة عانين، وأكلنا البرد الشديد في الليل، وفي النهار كنا نخرج للعب بالثلج، ولرمي كراته على بعضنا، ولم نكن نمتلك أغطية كافية، ويومها شعرنا بالذل الذي نعيشه، بعد ترحيلنا من بيوتنا.
ووفق الراوي، فقد شهد مخيم الفارعة، هطولات ثلجية عام 1992، لكنها لم تكن بتلك القسوة، ويمها تدافع أبناء المخيم والشبان خصوصا، لفتح الطرقات، ومساعدة المحتاجين.
تقول السبعينية صبحية نايف محمود: عندما هجرّنا اليهود من الكفرين، القريبة من حيفا، وصلنا لمنطقة (جنزور) على شارع جنين- نابلس، في منطقة سهلية، ونصبوا لنا الخيام، وفي عام 1950 نزل علينا الثلج، وهدم الخيام، وغرقنا في الوحل، ووقعت الأوتاد على رؤوسنا، وبقينا يومين في العذاب، وجاءت شاحنات الوكالة، ووزعتنا على المخيمات، ونقلت عائلتنا إلى مخيم نور شمس، وبعضنا وصل مخيم الفارعة، ومخيم جنين.
تضيف: في سنة الثلجة قتلنا الجوع، وعرفنا القلة والذلة، ومتنا من شدة البرد، وغرقت ملابسنا وأغطيتنا، وصفينا مرة أخرى بلا أي شيء، وسمعنا عن أناس ماتت من الثلج وشدة البرد.
ووفق الحاجة صبحية، فإن ثلوج عام 1992، التي شهدتها في مخيم الفارعة، بعد أن انتقلت من نور شمس، كانت خفيفة، وأغلقت الطرق يومين فقط، وتعاون الناس مع بعضهم لفتح الأزقة، وإزالة الثلوج عن أسطح المنازل.
وتقص الثمانينية آمنة يوسف شاهين أبو هنية مقاطع من الرحيل عن قرية شحمة جنوب فلسطين، فتقول: كان زوجي يعمل مزارعا، وعنده بئر ماء، وحين قررنا الرحيل بعد هجوم اليهود، عاد لإطفاء الماتور، وقال: هي يوم أو يومان ونعود. ثم واصلنا، وكانت الناس حافية، وطلعت في ملابسها، وكان صوت البارود خلفنا، وسمعنا عن نساء حملن المخدات بدل أولادهن من شدة الخوف. وأخفت أمي الكواشين والذهب والنقود في العقود (مبانٍ عالية الارتفاع وسميكة الجدران). وركبت أنا وأختي صبحية على الحمار، وركب أخوتي وأبي على الخيل. وشاهدنا امرأة مقتولة على جانب الطريق.
وتتابع: يذكرني الشتاء بالطريقة التي فرت فيها عائلة وأهالي شحمة نحو خربة (مغلس)، ثم إلى بيت جبرين، فعجور، ثم وصلنا بني نعيم (محافظة الخليل)، وسكنا فترة في المغر، وأثلجت الدنيا علينا، وكان جارنا شاكر
تاريخ
عوض محاصرا في المغارة، وصار يطلق بالفرد النار ليفتح الطريق بالثلج.
واستنادا إلى سجلات التاريخ المطري التي نشرتها مواقع متهمة بالطقس، فقد شهد عام 1934 هطولا للثلوج في الكثير من المناطق، لكن عام 1950 بـ'عام الثلجة الكبيرة'، لما شهدته الفترة من الرابع إلى السابع من شباط بعاصفة تاريخية شديدة البرودة، تدنت خلالها إلى ست درجات تحت الصفر في القدس ونابلس، وتسع درجات دون الصفر في مرتفعات الجليل والخليل، و3 درجات تحت الصفر في حيفا، فيما شملت الثلوج معظم فلسطين بأرقام قياسية، (55 سم في عكا، و50 على قمة جبل الكرمل، و40 في الناصرة، و27 في العفولة، ونحو 70 في القدس، و15 في طبريا ومثلها في النقب).
أدوار
وفي هذا السياق، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف، إلى أن سلسلة 'أصوات من طوباس' تسعى إلى جمع حكايات تعكس أوجه الحياة العديدة فيها، استنادا إلى بناء شهادات شفوية، ونسج قصص نجاح، وتسليط الضوء على سير ذاتية لمبدعين ورواد، وسرد للحظات تاريخية شهدتها المحافظة، التي تعاني أغوارها التهويد والاستيطان.