التعالي طريقُ الخلاص!- حسن المصطفى
"إن تلقائية الإنسان المتعالي تغيظنا، لأنها غير متبادلة"، يقول نيتشه في معرض إبانته للمسافة الفاصلة بين الفرد العادي المنضوي تحت تأثير عقلية "القطيع"، والفرد "المتعالي" المتحرر من تلك القيود الثقافية والنفسانية والمجتمعية.
التعالي هنا ليس ملازماً للغرور، ولا يمت له بصلة. ولا هو ضرب من النزق التافه الذي يمارسه المدعون، سطحيو التفكير. وإنما هو عملية خروج من حالة "الضعف" التي تسيطر على النفس وتجعلها مرتهنة لقيم أخلاقية كاذبة أو ما ورائيات لا وجود حقيقياً لها. هي بالتحديد البعد عن تأثير القوة الواهمة سواء كانت للعائلة أو المجتمع أو رجل الدين أو السياسة. هي تكريس للفردانية وإذكاء لنزعة الاستقلال الذاتي.
"الإغاظة" تحصل من كوننا غير قادرين على بلوغ ما يصل له "المتعالي" من مكانة فكرية ونفسية. الأمر الذي يخلق "حنقاً" في ذواتنا، لانتفاء "الندية" وشعورنا ب"دونية" حقيقية ظاهرة لا يمكن إخفاؤها بين جبل شامخ، وقاع مثقل بما تساقط من بقايا ال"عابرين في كلام عابر".
لذا "نرفض تصديق حماقات الحكماء"، على حد تعبير نيتشه والذي يعتبر هذا الرفض بمثابة "الإهانة"، لأن هذه الحماقات ليست كما يعتقد العامة ضرباً من الهراء والخواء أو الكلام المرسل على عواهنه، وإنما هي موقف نقداني تجاه قبوعنا الدائم في سفح الجبل، وتخوف من الصعود نحو القمة. هي محاولة استفزاز لذواتنا لتحفيزها نحو المغامرة وعدم الاستسلام للزيف الذي تأسس في الأذهان وحكم السلوك.
المتعالي شخص يضع بينه وبين الآخرين مسافة تحميه من أن يعود "حملاً". هو الآن متكئ في فردوسه بالقري من نبع المعرفة، منصاع لصوتها، مندكٌ في سيرورة دائمة نحو التزود من عذب مائها، غير عابئ بوحشة وحدته، ولا وعورة الجبل. وهو في ذات الوقت ينشر ذاته أمام شمس الحقيقة، كي تطهره من دمامل الجهل، وتشفيه من جراحها الغائرة. لذا، هو ناقد لذاته بلا تردد. وهو ما يقرره نيتشه عندما يقول "إنني عارفٌ لنفسي جيداً وأجلدها كل يوم دون هوادة".
ليس مرضاً عصابياً أو خللاً نفسانيا هو ما يجعل نيتشه قاسياً على ذاته حد جلدها بلا هوادة. بل معرفته الحقيقية بها، وعلمه باتساع محيط العلم، وصغر الإنسان، بل تلاشي ذاته أمام سعة العلوم ولا نهائيته.
في هذا العصر الذي تربع فيه الجهل، نجد الذوات المتعالية قليلة، بل نادرة. فيما الخواء هو سيدٌ تصغي له العامة، غير عارفة أنه أقل منها شأناً، وأوضع منزلة، بل فاقد للقيمة الأخلاقية، كونه يمارس نوعاً من التضليل المتعمد تجاه الناس، ويقودها إلى فراديس كاذبة، مليئة بالفخاخ المضللة والأفاعي السامة!.
هؤلاء القوم من الكذبة وعديمي المعرفة، هم من تتولد في نفوسهم نار الحسد والغيظ من الفرد "المتعالي"، لأنه لا تنطلي عليه خدعهم، ولا يمكن لحبالهم أن تجره لمصائدهم البالية والمكشوفة.
إن وحشة "التعالي" والخلوة بالنفس، على ما فيها من جلد وما تحتاجه من مراس، لهي أكثر لذة، وأعلى كعباً، وفيها من البهاء والنور، وتمنح سروراً وراحة نفسية وطمأنينة، وتوقد الذهن، وتفتح أبواباً عصية من الحكمة، وبها من الأسرار الكثير، ما يغني عن مصاحبة "الحمقى"، وتصد شر مجاملتهم وتلويث الأذن بترهات كلامهم المشؤوم!.
* نقلاً عن "الرياض"