زمن بهاء البخاري - بكر أبو بكر
لربما كان الزمن يفرض نفسه بشكل جعل من الرسم هو الرابط في أكثر من حقبة، ولربما كان الورق عبر الزمن يحتفظ بخاصية القدرة على التكثيف للحظة.. التقيته في البداية على الورق.. حيث رسم الزمن الصغير في شخصية لطيفة للأطفال كان اسمها سعد.
في المدرسة الابتدائية وفي مقصف المدرسة لاحظت وجود مجلة جديدة مخصصة للأطفال تتزين برسوم ملونة ولطيفة جدا وجذابة.. كان اسمها سعد فاشتريتها وكان الاسم والشعار وقصص أخرى قد مهرت بتوقيعه الجميل.
لم تخلُ أعداد من مجلات الثورة الفلسطينية آنذاك من رسوماته ومساهماته الثائرة أبدا، وهكذا كانت كثير من ملصقات وشعارات وبطاقات المناسبات المختلفة التي حفل بها تاريخ الثورة الفلسطينية الماجد، وتاريخ حركة فتح منذ انطلاقتها عام 1965.
بهاء البخاري يحتفظ بريشته الصاخبة تلك التي لا تكف عن الصرير، ولا تعجز عن الكلام جنبا إلى جنب مع قلبه وشخصيته المتمردة رغم رقته ودقة ألوانه وهدوئه البتار, وهو في شخصيته المحيرة يعبر عن المارد ذي الاضاءات الناعمة والروح اللطيفة.
عندما يرسم بهاء كان يخترق الزمن بل الأزمان التي عاشها أو يعيشها أو نعيشها بانحناء الريشة وظلال الألوان ونوع الحبر وسياق الحدث الذي يكتب فيه قصيدته الناطقة المتحركة.
الخطوط الحادة التي رسم بها بهاء الفلسطيني الثائر في مجلات الثورة لم تخلُ من انحناءات ذهبية عملت على أن تضفي الليونة الرحبة والإصباح والأمل على قسمات الفدائي والمقاوم والمجاهد ذي السحنة السمراء والقسمات القاسية.
في محطاته التي أعرفها بين الكويت وتونس وفلسطين (رغم أنه بدا مبكرا في دمشق) تابعته على الورق وبين دروب الزمن وحاورته في بعض منها، وما كانت شخصية الطفل سعد في الكويت ثم شخصية أبو عرب وأبو العبد وغيرها من الشخصيات إلا تعبيرات حقيقية عن شخصية بطل كمن في قلبه، ونار ابداع خرجت لتعبر عن حمم ثائرة.
ما زلت أذكر رسوماته في الصحافة الكويتية، ورسمه الذي قدمه لنا حين كنت رئيسا لاتحاد الطلاب في الكويت إذ أبرز قوات الـ17 حينها التي قامت بسلسلة من العلميات الجريئة ضد العدو، وكان لهذا الرسم المعبر أن فتح مجالا أمامي وأمامه فمثل فرصة اللقاء مع الأخ الكبير محمود الناطور (أبو الطيب) قائد قوات الـ 17 آنذاك والذي احتفظنا بعلاقتنا المميزة به حتى اليوم.
كما لا يغيب عن الذاكرة رسمه اللطيف المعبر لغلاف كتاب خالد الحسن مفكر الثورة الكبير المعنون (حمار وطني) كما لا يغيب عن الخاطر تلك المعارض القوية التي أقامها في جامعة الكويت في الثمانينيات من القرن العشرين، وحضرها ضمن من حضرها حينها خالد الذكر أول الرصاص اول الحجارة خليل الوزير أبو جهاد.
بهاء البخاري الذي واكبت ابداعاته ورسوماته أزمانا وأزمانا، منذ المدرسة الابتدائية حتى تسلمت اتحاد الطلاب في الجامعة وما تلاها، لم انقطع عن متابعة تجلياته في الرسم التشكيلي أيضا، ورسوماته الهندسية عن آثار القدس العربية الاسلامية، إذ كان له جمالية أن يقدم فنا راقيا الى جانب التشخيص (الكاريكاتور) فبرز ثائرا فلسطينيا وفتحويا في لوحاته الرائعة لعدد من شهداء اللجنة المركزية للحركة، ولبعض قادتها.
أحب الورق والرسم عليه، ولم يُهمل تقنية الزمان الجديد والرسم على الحاسوب فجمع بين رائحة الورق والحبر والألوان ومتعة التقانة الحديثة.
من شخصية (الطفل) في مجلة سعد إلى أبو عرب إلى شخصية أبو العبد تنقلت الريشة المقاوِمة عبر الصحف الكويتية الى الصحافة الفلسطينية بين صحيفة القدس ثم مؤسسة الإذاعة والمرناة (التلفزة) الفلسطينية فجريدة الأيام حيث كان يتحفنا يوميا بالكثير ذي الدلالة، وكان يردد بلا انقطاع إن لم تروا رسوماتي في اليوم التالي فإما أن الرقابة منعتها أو أنني مت... وهاهو قد ألقى ريشته جانبا ورحل.
بهاء البخاري المناضل وعضو اتحاد الفنانين الفلسطينيين ومؤسسات عالمية أخرى المبادر دوما كان له موقع سياسي هام إضافة لإطاره الثقافي والفني فأحبه قادة الثورة جميعا، وكان ضمن فريق مجلة (الصخرة) التي أصدرتها حركة فتح بالكويت في مرحلة حرجة من مراحلها اثر الانشقاق المدعوم سورياً عام 1983, وشكل مع الصحفيين والكتاب والسياسيين الحركيين فريقا –كنت واحدا منه-استطاع أن يلتقط اللحظة ويحصن الفكر الوطني الفتحوي ضد اختراقات الإقليم العابث.
كان في رسمه الأخير قبل أن يسلم الروح لبارئها قد خاطب أهل الكهف "يقصد الأمة" أن يفيقوا على انتفاضة أو #غضبة_القدس قائلا:(هل تسمعني)، وكان قد قدم هديته لحركة فتح بمناسبة انطلاقتها للعام 2015 القادمة شعار العاصفة المحلق بجناحين كما طلبت منه رحمه الله، فرسمه وكأنه يتوسم للنسر الفلسطيني ممثلا بشعار العاصفة أن يطير بجناحيه إلى العلا فيحقق النصر القادم بإذن الله.
بهاء البخاري الفنان والمبدع العربي والفلسطيني والعالمي المتعبد في محراب الثقافة والفن والأخلاق الراقية كان يسعى أن يسجل بريشته زمن العشق والنماء, زمن الإرادة بين الارض الحانية واتساع السماء، زمن النضال والفداء, زمن القدس التي عاشها والإباء.. وإن كان قد رحل فإنه اقتطع منا مُضغة من القلب لربما لا نحتمل الصمود بعدها.