فرحان السعدي: الشيخ ينتصر على الجلاد
ألف- عبد الباسط خلف: تلمع الحكايات الثورية للشيخ فرحان السعدي ، أحد رجالات ثورة العام 1936 رفيق درب عز الدين القسام، بذاكرة أقاربه ووجدان أحفاده، فيما تصر عائلته على تخليد اسمه بعشرات الأسماء التي تصون ذكراه، رغم مضي 74 عاماً على استشهاده.
يقول عبد الله هزاع السعدي، الذي يسكن جنين، إنه ولد بعد سبع سنوات من استشهاد الشيح فرحان، زوج عمته، غير أن يحفظ الكثير من القصص التي تتناول سيرته وجهاده واستشهاده، ومنها الصورة التي لا تفارق ذاكرته، للشيخ بلباسه العسكري. مثلما يعرف أنه ولد في نورس سنة 1864، وكان قناصاً يستطيع أن تصيب رصاصاته الإبرة لشدة دقتها. فيما طارده الإنجليز، وحكموا عليه بالإعدام في سجن عكاً، عندما كان صائماً، بعدما اعتقلوه، حينما كان يختفي في"خابية للقمح"، ولم يخف من حبل المشنقة، وقال مبتسماً قبل تنفيذ حكم الإعدام:" غدا سنلقي الأحبة، القسام وصحبه."يضيف: رزق زوج عمتي بأحمد وعبد الله وفريدة وزكية وشمسه، وننقل حكاية الشهيد وجهاده لأولادنا، خشية نسيانها، فقد كان شجاعاً، ومضرب المثل في المقاومة.
غير أن الشاب فرحان جاسر السعدي، الذي ولد العام 1981، ويعمل اليوم سائقاً يصر على نقل اسم الشيخ لأحفاده، ويتذكر جهاد أحد أجداده، وشجاعته، ويعرف تفاصيل صورته بسلاحه وصموده، وقصته مع الشهيد عز الدين القسام الذي أستشهد في أحراش يعبد. يقول: جدنا فرحان يستحق منا أن نتذكره باسم يشبهه، ولدينا في العائلة الكثير من هذه الأسماء، وسنسمي المزيد.
ويعرف أهالي جنين الكثير عن بطولات السعدي، ولا زالت ابنته فريدة تسكن مخيم جنين، وتقص حكاية والدها على أحفادها، أما أولاده الآخرين ففي الأردن. يتابع فرحان الحفيد: معظم أبناء عائلتنا يعرفون سيرة جدنا المشرفة.
تقول هدى السعدي: جدنا فرحان علامة مميزة في فلسطين، ومن لا يعرفها لا يعرف تاريخه، وهذا ليس استعلاء على الناس، لكنها حقيقة يعرفها كل من عاصر الشيخ." فيما تعترف منال عبد الستار أن ثقافتها حول الشيخ كانت ضحلة، وبالكاد عرفت رغم أنها تسكن جنين، في حي يحيط به أقارب الشيخ، أنه مقاوم للأنجليز، أعدم في شهر رمضان، بسجن عكا."
ومما يورده كتاب" شهداء فلسطين" لمحمد عبد القادر أبو فارس، أن السعدي استهل حياته العلمية بقراءة القرآن الكريم وترتيله، وحفظ أجزاء منه في مدرسة دينية محلية، ثم ارتحل إلى عكا حيث درس في المعهد الأحمدي مختلف العلوم الشرعية واللغوية، بعدها سافر إلى سوريا ليدرس على بعض علمائها، ليعود إلى فلسطين فأسند إليه المجلس الإسلامي الأعلى وظيفة واعظ وإمام مسجد في بيسان. وحين احتلت بريطانيا فلسطين وباشرت بتنفيذ خطتها في إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين هب يقاوم هذه الفكرة الخبيثة والإجراءات البريطانية الشريرة، فدعا إلى جهاد الإنجليز وقتال اليهود الطامعين، وشكل عصابة يقودها بنفسه لقتال الإنجليز واليهود.
وكان للشيخ فرحان شرف إطلاق الرصاصة الأولى لثورة العرب الكبرى التي عمت جميع أرجاء فلسطين واستمرت من سنة 1936 حتى سنة 1939، وكان للقساميين في هذه الثورة دور كبير في خوض المعارك وقتال الإنجليز واليهود، فسطروا ملاحم البطولة والشرف والفداء، وقد تولى أبو إبراهيم الكبير القيادة العامة للثورة في المنطقة الشمالية من فلسطين، وتولى الشيخ عطية أحمد عوض قيادة منطقة جنين، وتولى الشيخ فرحان السعدي قيادة منطقة نابلس.
وقام الشيخ فرحان بعدد من المعارك خلال ثورة 1936، فاشترك مع رجاله في معركة عين جالوت سنة 1936، فجرح في زنده الأيمن جرحاً بليغاً مما أعاقه عن استخدام السلاح ولكنه لم يتوقف عن القتال، بل استمر يجاهد ويقاتل فاستعمل المسدس بيده الأخرى.
وفي 30 حزيران 1963 قاد الشيخ فرحان السعدي والشيخ عطية مجموعة من المجاهدين تزيد على المائة لمهاجمة قافلة عسكرية بريطانية على طريق جنين- نابلس، فهاجموها وأوقعوا بها خسائر فادحة، أوشكت على الاستسلام لولا نجدة وصلتها من قوات الاحتلال البريطاني تقدر بألفي جندي تصحبهم الدبابات والمدافع والطائرات، فلم يتوقف الثوار عن القتال على الرغم من البون الشاسع بين القوتين في العدد والعدة، بل قاتلوا ببسالة، وهب لنجدتهم إخوانهم المجاهدون من القرى المجاورة، فكانت ملحمة فقد الإنجليز نتيجتها ثلاثين قتيلاً وتعطلت لهم مدرعة عندما انفجر فيها لغم أرضي.
على إثرها، أدركت بريطانيا خطورة هذا الرجل وقيادته الفذة، فصممت على القضاء عليه بأي وسيلة فأصدرت حكومة الانتداب بلاغاً بدفع ألف جنيه لمن يدل على الشيخ فرحان السعدي لأنه رئيس عصابة الأشقياء، وقطاع الطرق على حد زعم الإنجليز.
وبمجرد القبض على الشيخ فرحان ا شكلت محكمة عسكرية بريطانية لمحاكمته، وقد أعدت الحكم مسبقاً، ولم تستغرق محاكمته سوى ساعتين إذ بدأت المحاكمة من الساعة العاشرة من صباح 24 تشرين الثاني 1937، وانتهت في الساعة الثانية عشرة ظهراً ولم تمكّن المحكمة المحامين من المرافعة ولا من إحضار شهود نفي.
وامتنع الشيخ عن الكلام أثناء المحاكمة، إذ كان صامتاً قليل الكلام، إلا أنه كان جريئاً إذا كلم، وحين سأله رئيس المحكمة: هل أنت مذنب؟ أجاب وهو مقيد: معاذ الله أن أكون مذنباً. لقد أعلن رئيس المحكمة على الفور الحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم في 27 تشرين الثاني الموافق 14 رمضان 1356 هـ، وكان الشيخ صائماً.
ووجه السعدي ليلة إعدامه رسالة إلى أهله وإخوانه المجاهدين قال فيها: "إني سعيد بلقاء ربي.. غداً ألقى الأحبة الشيخ القسام وصحبه"، وطلب من إخوانه المجاهدين أن يواصلوا الكفاح ويحرروا أرض الإسراء والمعراج من الإنجليز المحتلين المتآمرين ومن اليهود الطامعين.
وعقب إعدام السعدي ذهبت قوة بريطانية إلى قريته نورس، وطوقت بيته، وصادرت كل ما يتعلق بالشيخ من صور وألبسة وسروج الخيل الخاصة به.
وتألفت في فلسطين بتاريخ 2/12/1937، أي بعد إعدامه بخمسة أيام فقط، مجموعة من المجاهدين أطلقت على نفسها اسم: (إخوان فرحان) وجعلت لها فروعاً في معظم المدن ، وكان من أبرز رجالها المجاهد سرور العبد الله.
وكتب الشيخ وصيته بخط يده وأودعها عند إدارة السجن المركزي بعكا :" إلى ولدنا عبد الله.. أوصيك باحترام أمك، ودير بالك على أشغالك، ويجب أن يكون قبري قرب النبي يوشع، وأسباب وفاتي هي معلومة للجميع، يا ولدنا عبد الله ارض على إخوانك من بعدي وخليهم يسامحونا.أخي الحاج نمر أوصيك بأولادنا، وخلوا سعد الشيخ سلمان يكون موجوداً بالدار عند العيال لعند ما يكبروا، أوصيك بعدم البكاء.أخي سعد الطه أوصيك بمراقبة ولدي عبد الله وأحمد مع أخي الحاج نمر وأولاده، بلغوا سلامي إلى عموم أهل نورس والمزار. والتقوى خير وأبقى الإمضاء :راجي عفو الديان فرحان السعدي."
وخاطب الشاعر عبد الكريم الكرمي(أبو سلمى) الأمة العربية حكاماً ومحكومين في رثاء السعدي:
قوموا اشهدوا فرحان فوق جبينه أثر السجود
يمشي إلى حبل الشهادة صائماً مشي الأسود
سبعون عاماً في سبيل الله والحق التليد
خجل الشباب من المشيب بل المسنون من القعود